ملحمة الغياب
ملحمة الغياب
نغم زبن الحربي
كان كاتبًا عبقريا، له طلسم أعيا جبابرة سحرة اللغة عن فكه بشكل رهيب تنصهر الحروف بين أنامله، كان بلدة من المشاعر، في كل مرة يقرر الكتابة كأنه يفتح مدينة الألعاب للأطفال ويبقى يراقبهم كأب، معقود بالكتابة لا تنفك تزداد!
قبل سبعة أعوام حمل نفسه من الوطن العربي راحلا ليكمل رحلة تعليمه في الولايات المتحدة الأمريكية رحل بحقيبة قصصه ومقالاته لعدة صحف بعدما ثبت وأوتد نفسه هناك، وبرهن لهم أن بيده تطويع الحرف كيفما شاء.
طرق الباب والنافذة، وحتى مطابع الصحف تقدم لها ورفض لأنه مقيمًا وليس مواطن، أبي إلا أن يصبح كاتبًا صحافيًا وبينما يجر أقدامه في شوارع المدينة تذكر غازي القصيبي مع زخات المطر ليلا وهو يقول:
“أنا الطموح الذي كلت قوادمه
أنا الكهولة يوم ما لديه غد”
بخطىً مثقلة بالكلمات، وطوابق هشة كالرياح صعد لطابقه الثالث عشر بموسيقا المطر المنهمر على النوافذ، كلما زمجر الريح جاء بفكرة، اتجه مسرعًا لشقته الثامنة مسابقًا عقله ليدون الأفكار اليتيمة تلك قبل رحيلها.
مضت ساعات وهو يكتبها، في لحظة ما، توقف!
خائفًا من أن تنضب أو تنفد تلك البحار وترحل عن أكفه جمانة الكلمة، ترك أشجار الفكرة تنمو ريثما يستريح وينام.
على هذا الرتم كانت الأيام تسير، إلى أن انبلج الصبح بعد اسبوعين من السعي، صبحا يحمل البشائر.
بينما كان ينتظر في موقف الحافلات رأى إعلانًا لصحيفة حديثة تحتاج لكتاب وكاتبات كان اسم الصحيفة
The East Coast أو الساحل الشرقي جعل الأمر رهينة في أروقة ذهنه خلال يومه الدراسي كاملا.
عندما انتهى وعاد أدراجه لشقته بحث عنها واستفسر طويلا حتى مضت أربعة أيام، حينئذ قرر أن يعمل براتبهم الزهيد على ألا يبقى عاطلًا.
كان وحيدًا بعدد من المقالات السياسية والأدبية، ثم أتت في ذلك العام ضربة اقتصادية أثرت في العالم مما جعله ينافس الصحف الأخرى بمقالات اقتصادية عوضًا عن قصصه القصيرة التي يدونها على مواقع التواصل الاجتماعي، بدأ يُشكل قاعدة من الجمهور ليستعين بهم في النشر والتسويق لصحيفته التي يعمل بها.
أرقام مقالاته تجاوزت أرقام الخسائر، في أخر مقالة اقتصادية نشرها بعد أن استقرت المؤشرات قال: “وكما نرى عبر التاريخ علينا أن نحقن بالخسارة بشدة لكي نرى ركننا الثابت أين!”
وكانت هذه العبارة تحديدًا من بين حشوته الأدبية الخاصة في مقالاته لذيذة جدا لدى أصحاب الصحف الإخبارية كافة، ذاع صيته في كافة الأقطار الصحافية، شكل أضخم وأوسع قاعدة جماهيرية في مواقع التواصل الاجتماعي نام تلك الليلة قرير العين، هانئ البال.
استيقظ في تمام الساعة الخامسة فجرًا بعد أن رن هادم اللذات معلنا بداية “موجة تسونامي” من الأخبار مجددًا -ككل يوم-، فتح هاتفه رأى تعليقًا يقول:
نصوص يعقوب تميز وإن حاول الكثير إسدال الستار على اسمه تحمل بصمة مختلفة”
تحمس كثيرًا ولكنه أبى أن يترك المنزل الذي احتواه في غربته، فكان يشعر بأنه مرتبط به شعوريًا قبل أن يكون عمله الأحب.
لم تكف الضربة الاقتصادية عن تسليط الضوء على قلمه ليصل، بل للطبيعة حق بأن يدون لأجلها فكتب بحوثًا، وعمل استقصاءات، وسجل المشاهد في قلب الورق.
كان ذهنه يتزلزل مع زلازل أندونيسيا، ويعقبه -ليزيل بعضًا مما أخلف- فيضانات الأفكار كما يحدث في كاليفورنيا، لكن بلا شك كانت قصصه حدثًا عظيمًا كثورة بركان ياباني.
يشعر بأن ذهنه كصنبور ماء بقي مفتوحًا يلهو به الأطفال؛ ضجر من هذا الأمر يعقوب فقرر أن يغير وجهة الماء نحو الأعلى، ليتأخر وصوله للأرض حتى يسأم الأطفال من إنتظاره كحافلة المثلجات.
قبل نهاية العام قامت الصحيفة بعمل احتفال ضخم فلم يحضره، كان يكتفي بأن يرسل تلويحاته عبر النافذة، الشخص الوحيد الذي كان يردها منظف النوافذ الذي ظل ماكثًا أمام نافذة شقته الطويلة ظانًا بأن يعقوب وهمًا غير حقيقي، فقد كان واقفًا بمكانه ويكرر التلويح لمدة طويلة، قرر المنظف فقط أن يُغير طريقة تمسيحه للنافذة حتى اختفى.
بعد مضيّ يومين كان العالم راكدًا كالحرّة القديمة أو كحرب باردة، لم يكن هناك أخبار فقد كانت تمشي العاصمة على الشريط في حفل تكريمها سينمائيًا، لم تهبط الأسهم النفطية طبيعي، الاقتصاد يشبه جناح عصفور طائر، الصحة لم يعلن شيئًا، حقوق الإنسان والطفل والحيوان جميعها تمارس مجالات شديدة، لا براكين تثور، لا أعاصير تزمر، لا فيضانات تهدم، لم يكن هناك خبرًا لامعًا يلوي رأس قلمه، قرر أن يأخذ إجازة أطول من المقدَّمةِ له تتزامن مع رأس السنة هناك لعله يستريح بعد السباق الذهني الذي مر به.
أخبر مدير الصحيفة فقرر المدير إعطاءه إجازة وقدم له راتبًا مضاعفًا ورحلات طيران حتى مسافة معينة؛ لأنه شعر بأنه مدينًت ليعقوب بنصف ما تجني الصحيفة وأكثر، فقد كان بمثابة جراحٍ أنعش قلب الصحافة.
عاد مبكرًا لشقته حزم حقائبه، قرر ألا يأخذ شيئًا كثيرًا؛ لأنه سيعود خلال أسبوعين، نظف منزله وترك جهاز الرد الآلي يعمل في غيابه، توجه إلى مطار مدينة سياتل الأمريكية، وصعد على متن الرحلة رقم ٣٢١ التي كانت متجهة نحو كانبرا الأسترالية، شعر بأن مساره نحو الطائرة وحيدًا يساوي عدة كيلومترات بينما هو واقعيًا ليس إلا عدة أمتار فقط.
ورده اتصال من خالته تبلغه بأن ابنها في مدينة نيويورك تعرض لحادث وليس لديه أحد، فطلبت منه أن يذهب له، قرر مباشرةً أن يعود لمكتب الاستقبال ويحجز تذكرة في أقرب رحلة ذاهبة إلى نيويورك، اضطر أن ينتظرها ساعتين حتى صعد على متنها.
“عاجل: أعلن مركز الملاحة الجوية في سياتل اختفاء الطائرة رقم ۳۲۱ التي أقلعت ليلة البارحة وعلى متنها عدد ٤٠ من الركاب، مضيفين أنهم تواصلوا مع المراكز الملاحية الأخرى ولم تظهر في الأجهزة ولم يعد لها أي أثر”!
كان الأمر أشبه بقنبلة انتهى مؤقتها، كأنما الخبر خسف بأرض صحيفة (الساحل الشرقي)!
فزع الكتاب والمصورين وكل من يعمل بها بحثًا عن يعقوب (سلطان الصحافة الإخبارية) تأخر -على غير عادته- من أن يحضر، قام أحد زملائه بالذهاب نحو المدير بسرعة سأله ما إذ كان سيأتي يعقوب أم لا، أخبره قائلًا: “يعقوب أخذ إجازة مفتوحة، ذاهبًا على حد علمي نحو أستراليا”
شعر زميله بأن المدير لا يعلم عن الحادثة فأخبره بدوره، يبدو أن حادثة الطائرة ٣٢١ كانت قارعتهم التي لم تكن بالحسبان.
بدأ يتلعثم المدير لم يكن يدري ما يقول، تواردت لديه الاحتمالات، وتزاحمت بذهنه التساؤلات أي مدينة سيقصدها يعقوب، في أي مطار تهبط طائرته.
قرر أن يقطع الشك باليقين وذهب لشقته ليسجل رسالة في جهاز الرد الآلي عندما ضغط على الجهاز وصعق برسالة قد تركها يعقوب بصوته تفيد بأنه مسافر لكانبرا في أستراليا.. عاد لمقر العمل بثلاثة اطنان من الخوف.
على مدى الأسبوع الأول كان أصدقائه وزملائه يبعثون رسائل صوتية يسألونه عن مكانه، ينهش القلق قلوبهم وتمضغ أذهانهم الاحتمالات، مضى الأسبوع ولم يكن هناك رد.
لم يعد له أي أثر؛ فقد أغلق جهازه المحمول ليتخفف من ضغط العمل قبل رحيله.
بدأ الأسبوع الثاني أعلنت الجهات المسؤولة عن احتمال ٧٠٪ من وقوع الطائرة في المحيط الأطلسي ولكن لم يتم التأكد تمامًا؛ فقد أُرسلت طواقم بحرية للتأكد.
الاضطراب كان يستحوذ على صحيفة الساحل الشرقي فقد اختفى يعقوب!
جاء الأسبوع الثالث واظهرت الجهات المسؤولة التقارير:
“نحن الآن أمام مركز الملاحة في شرق الولايات المتحدة الأمريكية وقد أصدرت تقريرًا يفيد بمعلومات حول الطائرة وأسماء الركاب، وأنها بالفعل وقعت في المحيط الأطلسي حيث أدى وقوعها إلى وفاة ٥ من طاقم الطائرة و٣ من الركاب وإصابة عدد ۳۱ راكب آخر”
كان جميع أبناء الصحيفة مجتمعين تحت الشاشات يأكلون أصابع القلق، بعدما انتهت النشرة الإخبارية خرج المدير عجلًت يود بأن يرى ما إذ كان يعقوب من بين تلك الأسماء أم لا، تفقد مرة مرتين ثلاث.. بحث في قائمة الوفيات، والإصابات أيضًا راجعها مرتين وأكثر، لم يجد اسمه!
غرق في بحور من الشكوك والخوف هل غرق؟ ألم يكن له أثر ؟! اليوم التالي. شهرين على الحادثة. عام ولم يحدث تغير!
اضطربت الصحيفة في أول الأمر ثم تواكأت على أركانها الأخرى من الكتاب والكاتبات الذين حاولوا أن يسدوا غياب يعقوب.
كاتبة رأي وقاصة
