كُتاب الرأي

المُزهِّدُونَ في الدَّفْعِ الباذِخُونَ في رَغْبَةِ الاقتناءِ

علي بن عيضة المالكي
المُزهِّدُونَ في الدَّفْعِ الباذِخُونَ في رَغْبَةِ الاقتناءِ

يُعَدُّ سوقُ العِلْمِ أضعف الأسواق التجارية وأبخسها على الإطلاق خاصة بيع الكتب، ولا أعني الأدوات المكتبية!  شيء غريب فعلاً يحدث في هذا السوق، حتى نِخْلِقَ زبونًا أو عميلاً مثلاً ! يتعين علينا بذل مجهود مضني حتى يبتاع أحدهم كتيَّبًا ببضعة ريالات ويُعْطى فوقها هدية بالمجان ودعوة لحضور افتتاح معرض كتاب كنوعٍ من الترغيب في القراءة والاطلاع والتدريب على عشق الثقافة.

في أثناء التجول بإحدى صالات معارض الكتاب التي استضافتها مدينة سعودية – غالية على نفسي-  خلال الأيامالقليلة المنصرمة لفت انتباهي هذا الأمر ، كمٌّ كبيرٌ من العروض وعددٌ غير قليلٍ من دورِ النّشر وآلاف من الكتب والمطبوعات، المعرض في الواقع كان يغصّ بالمرتادين والزوار ، كلُّ شيء كان مرتبًا ومنظمًا لأجل إنجاح فعاليات التظاهرة الثقافية، واستدراكًا للقول لِمَا شدني ولفت الانتباه أنّ المبيعات لم تكن بحجم الاستعداد الضخم، كأنَّ الناس لا يرغبون في الشراء ! بالقدر الذي يشتهون الاقتناء بثمن زهيد ، لم يسعفني الوقت للالتقاء بإدارة المعرض والسؤال عن حجم المبيعات لكن مما ظهر لي ومن خلال المشاهدة ،أعتقد أنّ  كمية المبيعات في هذاك اليوم  لا تتخطى حجم وتكلفة بناءَ متجرٍ صغيرٍ مساحته لا تتجاوز أربع مئة متر مربع . نحن أمام أزمةٍ من نوعٍ آخر ، أزمةٌ مركبةٌ بين ما يتمُّ عرضُه ، وبين ما يتم تسويقه، وبين هذا وذاك أزمة  تناقض عجيبة ! البذخ والرغبة في الاقتناء والتزهيد في أجور المؤلفات وأعمال الكتّاب والأدباء وشريحة المثقفين بشكل عام.

الحاصلُ في الأمر والغريبُ فيه أنْ يجدَ المؤلفُ نفسَه في مواجهة ضارية مع دور النشر، وصعوبة في التسويق علاوة على ضحالة المقابل المادي للكتاب.

في كثير من الأحايين نجد أن دور النشر تطلب من المؤلف سواءً المبتدئ أو الحاذق المحترف المساهمة في طباعة الكتاب حتى تقوم هي بالترويج معه لكتابه ومساعدته في نشره ثم يحاول القائمين عليها  إقناع صاحبه أن يعرضه بمبلغ زهيد لا يتجاوز حفنة ريالات ولو طلب الكاتب زيادة السعر لرُفِضَ طلبُه.

هناك أيضًا أمور شائكة تواجه المؤلفين إن حصل اتفاق على الطباعة، أولها بقاء نسخ كثيرة على رفوف المكتبات بلا تسويق أو إعادة تجديد ، تبقى لسنوات مركونة مهملة لا أحد يستعملها وربما تخلص منها الناشر بأي طريقة كانت رغم احتوائها على كم زاخر من المعلومات والنظريات والمقترحات التي لو رُكِّز عليها من مراكز الأبحاث لأفادت في مختلف التخصصات الهندسية والصناعية والميكانيكية والطبية والتطبيقية والثقافية والإدارية.

الأمر الآخر: ظاهرة الاقتناء.

فظاهرة الاقتناء الشكلي لا تجدي نفعًا ولا تدفع ضررًا وفوقها كثرة المفاصلة في الثمن ،نحن نؤمن تمامًا أنّ  الكتّاب والمؤلفين والمثقفين هم صفوة الإدراك والوعي ، لكننا لا نريد أن تحل عليهم لعنة الوعي وتُسلب حقوقهم بداعي سعة الإدراك.

في النهاية هم بشر بحاجة للعيش الكريم وهم يبحثون عنه من خلال مؤلفاتهم حتى تستمر حياتهم.لمَ كلّ هذه القسوة عليهم ؟ لا يتوقع البعض أنّ بأيديهم الذهبية ملاعق ذهبية ،لا أبدًا هم أناس قدّرت الظروف أن يعيشوا هكذا مثل رسل السلام يضيؤون الطريق لغيرهم عن طريق بث الأفكار في صورة متوازنة ومكتوبة ولكن في المقابل هم يفتشون عما يقيهم ذلّ السؤال ومرارة الحاجة ويحفظ لهم كرامتهم، وتلك المنتجات الفكرية توازي المنتجات التجارية لا فرق بينهما تلك منتجات تغذي العقول والأخرى تشبع الاحتياج الفسيولوجي وكلاً له قيمته المعنوية والمادية، فلمَ لا تكون هذه مثل تلك؟ ما الفرق بينهما؟

لم أجد أغرب من هذا! يُطْلَبُ التزهّد في قيمة المطبوع ونلِحُّ كثيرًا فيه، بالمقابل لا نجد هذا المطلب عند الرغبة في التسوق لشراء جهاز لوحي باهض الثمن أو ابتياع وجبة غذائية دسمة من أحد المطاعم العالمية! هل تعلم أنّه يمكن للشخص دفع قيمة وجبة عشاء فاخرة تساوي قيمتها مئتي ريال بسهولة تامة في أحد أفخم المطاعم ولا يقبل بالدفع لو وجد كتاب ثمنه خمسون ريالاً!  كم نتوق لسماع هذا التزهد في المقاهي والكماليات كما نسمعها في الكتب باقتنائها والولع به؛ فلنقدم ثقافة العقول ولنجعلها تطغى على كل الثقافات الاستهلاكية.

انتهى
كاتب رأي

علي بن عيضة المالكي

كاتب رأي وإعلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى