كُتاب الرأي
الأمن الرقمي في زمن الميتافورس

الأمن الرقمي في زمن الميتافورس
في العالم الجديد الذي تتداخل فيه الحواس بالرموز، وتغدو اللمسة رقمًا والنظرة إشارة، تتشكل هوية الإنسان من خيوط الضوء والبيانات. نحن لا نعيش على الشبكة فحسب، بل بدأنا نعيش داخلها. الميتافيرس لم يعد وعدًا خياليًا من أفلام الخيال العلمي، بل أصبح واقعًا يمدّ حدوده إلى تفاصيل حياتنا، يخلق لنا مدنًا بديلة، وأسواقًا تزدهر فيهاالعملة الافتراضية، وعلاقات تتجاوز الحدود . غير أن هذا البريق الرقمي يخفي في أعماقه ظلالًا أمنية مقلقة، تذكّرنا بأن كل تقدم بلا وعي أمني يشبه بناء مدينة زجاجية بلا أبواب.
في الميتافيرس، لا تُسرق المعلومات فقط، بل يمكن سرقة الوجود نفسه. فالهويّة هنا ليست بطاقة ولا رقمًا وطنيًا، بل مزيج من الصورة والصوت والحركة والانفعالات الدقيقة التي تسجّلها النظارات الذكية وأجهزة الواقع المعزّز. الباحثون حذروا مؤخرًا من ثغرات في أجهزة Quest Metaتتيح لمهاجمين السيطرة على واجهات المستخدمين، بل زرع شاشات مزيفة توهمهم أنهم في فضاء مألوف بينما يوجّهون نحو اختراق خفي. لقد صار الاحتيال في هذا العالم أكثر تخفّيًا ودفئًا في ملامحه، يدخل من بوابة الثقة ويجلس بين النبضات قبل أن يصل إلى الجهاز.
ولم يعد الخطر تقنيًا فحسب، بل وجوديًا في جوهره. ففي إحدى التجارب البحثية التي أُجريت في جامعة ستانفورد عام 2024، تَبيَّن أن العقل البشري يتفاعل مع الأحداث الافتراضية كما يتفاعل مع الواقع تمامًا، فيُفرز هرمونات الخوف أو السعادة أو الغضب بنفس الدرجة. وهذا يعني أن اختراق العالم الافتراضي لا يهدد الأجهزة فقط، بل يمتدّ إلى الجهاز الأهم: النفس البشرية. حين تتلاعب الخوارزميات بانفعالات الإنسان وتعيد تشكيل سلوكه من خلال بيئة محبوكة بإتقان، يصبح الأمن النفسي جزءًا لا يتجزأ من الأمن الرقمي.
الأمن الرقمي اليوم ليس جدار حماية من الفيروسات كما كان في الأمس، بل منظومة من الوعي والسلوك والتشريع. لم تعد كلمات المرور درعًا كافيًا، لأن الاختراق لم يعد يستهدف البيانات فقط، بل الثقة نفسها. نحن أمام مرحلة تحتاج إلى هوية سيادية ذاتية يمتلكها الفرد ويديرها بإرادته، لا أن تكون رهينة لأنظمة أو شركات. فكل معلومة صغيرة —نظرة، ابتسامة، حركة يد —قد تُصبح في عالم الميتافيرس ثروة تُباع وتشترى أو تُستخدم لتوجيه السلوك والإعلانات والمشاعر.
لكن وسط هذا المشهد المقلق، يظل الأمل ممكنًا. فالتقنية التي تهددنا هي ذاتها القادرة على حمايتنا إذا صُممت بضمير. الذكاء الاصطناعي يمكن أن يرصد السلوكيات العدوانية داخل البيئات الافتراضية قبل أن تتفاقم، والبلوك تشين يمكن أن يضمن الشفافية في ملكية الأصول والمعاملات، والتشريعات الذكية تستطيع أن تضع حدودًا إنسانية في فضاء لا يعرف الحدود.
لن يكون الأمان في الميتافيرس نتيجة أنظمة إلكترونية فحسب، بل ثمرة وعي إنساني جديد. علينا أن نعلّم أبناءنا أن الحذر قيمة، وأن الخصوصية حق مقدس لا يُفرّط فيه مقابل التجربة أو المتعة أو الشهرة. فالعالم الافتراضي لا يرحم من يعيش فيه بلا بصيرة، تمامًا كما لا يرحم البحر من لا يجيد السباحة.
الأمن الرقمي في زمن الميتافيرس ليس ترفًا، بل شرط بقاء. لأن الإنسان، مهما تخلّى عن جسده لصالح الصورة، يظل يبحث عن مأوى آمن لروحه في هذا الاتساع المضيء. والميتافيرس، مهما اتسع، لن يكون فضاءً للحياة ما لم نزرع فيه قيم الأمان، والخصوصية، والاحترام الإنساني. إننا نعيش بداية عصر جديد، ولكن التاريخ لا يكتب عن من اخترق النظام، بل عن من صانه بوعي ومسؤولية



