الكلمة التي تنتظر الميلاد

الكلمة التي تنتظر الميلاد
في حياة الكاتب، يظل هناك شعور غامض يرافقه في كل مرة يضع قلمه على الورق، أن ما كتبه ليس إلا مقدمة، وأن المعنى الأعمق لم يولد بعد، كأن الكلمات كائنات حية، بعضها وُلد وخرج إلى الدنيا، وبعضها ما زال يتشكل في رحم الغيب، ينتظر اللحظة التي يُؤذن له فيها أن يولد، نحن نكتب وننشر ونملأ الأوراق، لكننا في أعماقنا نوقن أن أجمل ما فينا لم يُقل بعد، وأن هناك كلمة نائمة في زوايا الروح، لن يكتمل الطريق حتى تستيقظ.
قال ابن المبارك – رحمه الله – حين سُئل: إلى متى تكتب؟ فأجاب: “لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد”. وما أعظمها من إجابة، تحمل يقين الباحث الذي يعرف أن الرحلة أطول من كل ما سطّره.
الكتابة ليست أوراقا تُصفّف، ولا سطورا تُرصّ كجدران باردة، بل هي أنفاس الروح حين تضيق، هي محاولتنا أن نصوغ ما يعتمل في دواخلنا من شوق ووجع ورجاء، وكل كلمة نكتبها تشبه قطرة ماء في بحر لا ساحل له، يشبه الأمر السير في طريق طويل، كل خطوة تكشف مشهدا جديدا، لكن الأفق الأجمل يظل بعيدا، لذلك فإن القلم لا يعرف الراحة، لأنه يشعر أن أجمل ما عنده يختبئ في الغد، لا في الأمس.
وأحيانا تكون تلك الكلمة أمانا مؤجلا، ربما نكتب سنوات، ثم تولد جملة واحدة في لحظة صدق، فنجدها تشفي جرحا قديما فينا، أو تعيد إلينا إيمانا كاد يخبو، كم من كاتب ظن أنه يكتب للناس، فإذا بالكلمة التي خطّها أنقذته هو أولا، إنها كلمات لا تأتي بالطلب ولا تُصاغ بالحيلة، بل تُولد حين تكتمل لحظة الصفاء، ويستيقظ في القلب نور لم نكن نراه من قبل.
وهذا المعنى لا يخص الأدباء وحدهم، بل يشمل كل من يترك أثرا بكلمة، المعلم في فصله، ربما يكرر شرحا معتادا، لكنه يؤمن أن هناك درسا سيُلقيه في يومٍ ما سيغير طالبا إلى الأبد، الخطيب على منبره، قد يلقي مئات الخطب، لكنه يظل يبحث عن الخطبة التي تهز قلبا غافلا وتعيده إلى الله، الأب أو الأم في البيت، ربما يقدمان النصائح مرارا، لكنهما يدركان أن جملة واحدة، في لحظة صادقة، قد تفتح بصيرة الابن وتغير مسار حياته.
والتاريخ مليء بالشواهد، كم من كلمة صنعت نهضة أو أوقفت فتنة، الإمام أحمد بن حنبل حين ثبت على قوله: “القرآن كلام الله غير مخلوق”، لم تكن جملة عابرة، بل كلمة غيرت مسار أمة وثبّتت آلاف القلوب. الإمام الغزالي كتب في إحياء علوم الدين كلمات كانت دواءً للقلوب الميتة، وبها أحيا الله علوما طُمست. وفي العصر الحديث، كلمات الرافعي في وحي القلم لا تزال تعلم أجيالا معنى الكرامة والاعتزاز بالهوية. كل هؤلاء كتبوا كثيرا، لكن ما بقي حيا هو الكلمة التي وُلدت في لحظة صفاء وصدق.
وهكذا يظل الكاتب – وكل صاحب رسالة – يكتب وفي داخله شعور أنه لم يبدأ بعد، يشبه العابد الذي يقوم الليل ويقول في ختام دعائه: “ما عبدناك حق عبادتك”. الشعور بالعجز أمام المعنى هو ما يدفعنا للاستمرار، لأنه يذكّرنا أن أمامنا أبوابا لم تُفتح بعد، وأن الكلمة التي ستوقظ القلب لم تولد بعد.
ولهذا فإن التوقف عن الكتابة أو الكلام النافع يشبه التوقف عن التنفس، من يظن أنه قال كل شيء، في الحقيقة لم يقل شيئا بعد، وما دامت الروح تنبض، فهناك معنى جديد ينتظر، وكلمة أخرى تستحق أن تُقال، وربما ما لم يُكتب بعد هو ما سيغيّر مصيرا، أو يشفي قلبا، أو يوقظ ضميرا.
فلنمضِ في طريق الكتابة والكلمة، لا غرورا ولا تكرارا، بل يقينا بأن الغد يحمل ما لم نصل إليه بعد، لنجعل أقلامنا يقظة، وقلوبنا حاضرة، وألسنتنا رطبة بالحق، لعلّ الكلمة التي تُنقذنا وتُنقذ غيرنا لم تولد بعد، وما أجمل أن يعيش المرء مؤمنا أن أجمل ما فيه لم يقله بعد، وأن أنفع ما في قلمه لم يخطّه بعد، وأن الحياة دائما تمنح فرصة لبداية جديدة بحرف واحد صادق، يولد في لحظة صفاء، وأن بين دفاتر الأيام بياضا ينتظر الحبر الصادق.
كاتب رأي