كُتاب الرأي

الملاك سعد الجبري

عندما تقف أمام المرآة، ما الذي يعكسه الزجاج إليك؟
هل تشاهد جمالا خارجيا يسر الناظرين، أو تري ملامح شيطان من حوله ترقص الشياطين؟
هل ترى في انعكاس صورتك صفاء روحك وحنان قلبك وطيبتك، أو ترى صورة شقائك وبؤسك وشقاء من حولك وحظك الرديء؟
وعندما يتجه نظرك نحو الآخرين، ما الذي يجذبك إليهم؟ أشكالهم الخارجية أم صفاتهم الحقيقية؟
هل ملامحهم هي من تخطف بصرك، أما هناك شيء أعمق فيهم يشدك إليهم؟
كثيرا ما نبني انطباعاتنا الأولية بناء على المظاهر والأشكال الخارجية، ولكن هل الملامح فعلا تعكس حقيقة الجوهر أم لا تعكس غير ما نراه من قشرة خارجية؟

قد ترى البراءة تلوح في وجه شخص وسيم فتحبه، ومع مرور الوقت يظهر لك بأنه يحمل خبثا وحقدا لا حدود له، والعكس بالعكس، فقد يخفي وجه شخص عبوس غير وسيم قلب مفعما بالدفء والحب والطيبة المتناهية والفكاهة والصدق والبراءة.

أنا لا أومن بأن هذه القشرة الخارجية تدل على نقاء الصفات الداخلية، وتكشف لنا ما في نفوس الآخرين من سوء الطباع والنيات أو العكس، أو نستطيع أن نقيم من خلالها ذواتهم.

لكل ثقافة ملامح تساعد في التعرف إلى هويتها، وترتبط ملامح البشر بالسمات الاجتماعية، والثقافية، والنفسية لتلك المجتمعات، وأن حاولوا إظهار العكس.

هذه الفلسفة الإدارية تدعونا للتفكير في العلاقة بين الشكل الخارجي والمضمون، وكيف تؤثر تلك العلاقات في فهمنا للعالم من حولنا وتفاعلنا مع الآخرين.

عند التأمل في التفاعل والانطباعات الأولية مع البشر، نجد أنفسنا أمام لغز معقد، الوجوه التي نراها، والملامح التي نقرؤها، ما هي إلا مجرد قشرة خارجية لا يعول عليها، ولكنها في الغالب هي من تحدد مسار علاقتنا وتفاعلنا مع هذه القشرة، ونسند لها بناء عليها أهم المناصب المهمة أو العليا، فعلى سبيل المثال، يتأثر الكثير من الأشخاص بالوسامة من الوهلة الأولى، مما يؤدي إلى ما يعرف عند علماء النفس بـ “تأثير الهالة”، فننظر تلقائيا إلى الشخص الوسيم على أنه أكثر كفاءة من غير الوسيم، وأجدر بالثقة في تولي المناصب منه، بغض النظر عن سمات ذلك الوسيم الداخلية التي ربما لا تطاق.

فهل يمكن أن تكون هذه الملامح الجميلة التي نالت ثقتنا خداعة؟
الجواب بكل بساطة نعم، الكثير منا تعرض لمواقف عكس فيها شخص يبدو لطيفا ووسيما وودودا سلوك مغاير لما كان يظهره له، والعكس بالعكس، وشخص يبدو عابسا باردا مخيفا يخفي وراء عبوسه وبرودة وشكله قلبا حنونا دافئا، وروحا مرحة، ونفسا نظيفة أمينة صادقة.

يمثل المثال الأول بكل جدارة خائن الوطن والقسم والدين والأمانة المنشق/ سعد الجبري الذي كنا نعرفه شابا أمينا ووسيما وناعما وخجولا وجذابا، ولا تكاد تسمع صوته من شدة حيائه، وكان يدربنا، ويدرسنا في كلية قوى الأمن الداخلي قبل خمس وأربعين سنة تقريبا، وبعدما نقل إلى وزارة الداخلية للعمل فيها تحول بقدرة قادر إلى وحش كاسر يبطش من تحت الظل بكبار الضباط وصغارهم باسم “معازيبه”، وحرامي شاطر يسرق الكحل من العين، وأصابعه “تتلف بحرير” كما يقول إخواننا أبناء النيل.

هذه العوامل التي تؤثر في السلوك والتفاعل بين الأفراد في داخل المجتمع الواحد قديمة جدا، وترتبط على نحو وثيق بالثقافات والمجتمعات التي نعيش فيها، فـ “ملامحنا الشخصية”، لا تشمل أشكالنا الخارجي، ولكن تشمل سلوكياتنا، وتعابيرنا، وتاريخنا، وتقاليدنا، وقناعاتنا، وتجاربنا المشتركة، وملامحنا الشخصية تساعدنا فقط في التعرف إلى بعضنا البعض، وإلا فأنها إذا اعتمدنا عليها في إسناد المناصب ستؤدي في الغالب إلى تعميمات واستنتاجات ﻭ نتائج خاطئة تماما، فليس كل ما يلمع ذهبا كما يقال.

على سبيل المثال، في المجتمعات المتعددة الثقافات، ينظر الناس إلى الملامح الشخصية كدلائل على القدرات الخارقة، مما يؤدي إلى تفسيرات مغلوطة عن الأفراد الذين هم من ثقافات وخلفيات وهيئات مختلفة، وهذا يظهر لنا كيف للملامح الشخصية أن تكون مفيدة في الإدارة والقيادة، وفي الوقت نفسه مضللة.

ولهذا يجب ألا نسعى لرؤية الأشخاص من خلال ملامحهم الشخصية الخارجية فقط، بل من خلال أنهم أفراد معقدون، يمتلكون خصائص براقة، وقصصا تتجاوز أشكالهم المرئية بكثير، وهذا يتطلب منا تطوير قدرتنا على النظر إلى ما وراء الأشكال الخارجية، والتعمق في استيعاب الأبعاد الأخرى التي تشكل شخصيات الأفراد وهويتهم الحقيقية، ف “لا يعرف الرجال كما يقال بالمظاهر، وإنما يعرفون بالمخابر”، ولا نحكم على الناس بناء على مظاهرهم الخارجية، فالاعتماد على دراسة الجوهر عند إسناد المناصب أهم بكثير من الاعتماد على المظهر.

اعرف أن هذه العملية ليست سهلة ومعقدة، وتتطلب جهدا وصبرا وفهما عميقا لهذه النظرية، والإنسان ميال بطبعه إلى الاعتماد على الانطباعات الأولية والأحكام السريعة، ومع ذلك، فإن التحدي الكبير يكمن في كيف نعلق هذه الأحكام الآن، ونسعى لفهم الآخرين على نحو حتى لا ننتج في المستقبل نسخا مكررة من أمثال هذا الخائن الذي كان يبدو في نظر الجميع ملاكا طاهرا ثم انقلب بوجه آخر، وتحول لشيطان منكر للجميل لا يؤمن بالوطن، ولا يري له عليه فضلا، وغيره الكثير والكثير من أقرانه الأنذال والخونة.

فمن المفيد النظر في تجارب الأفراد الشخصية، وقراءة كيف يمكن أن تؤثر هذه التجارب على سلوكياتهم وقراراتهم في المستقبل، فالكثير من السلوكيات التي تبدو غير مفهومة أو غريبة في البداية، يمكن أن تصبح مفهومة عندما نفهم السياق الذي ينشئ فيه الفرد، أو قبل أن يصل للمنصب الذي يسعى إليه بيده ورجليه في نهاية المطاف، وأن نفهم بأن كل شخص يمثل عالما فريدا في نوعه، مليئا بالتجارب، والأطماع، والمشاعر، والأفكار والآمال، والطموحات التي تشكل مبادئه، وطريقة تفكيره وتفاعله مع من حوله، والاعتراف بهذه الفردية هو ما يساعدنا على تجاوز الحدود التي تفرضها علينا الملامح الخارجية والانطباعات الأولية، لذا، اتركوا الناس يتكلمون بوضوح بما في أنفسهم، ويفتحون قلوبهم وعقولهم ليفهم الآخرين من هم على حقيقتهم، فتبنيي هذه المواقف، يمكننا أن نسهم في خلق مجتمع يقدر التنوع الفكري والثقافي والاجتماعي، ويعمل على تعزيز التفاهم المتبادل والاحترام بين جميع مكوناته، ولا ننخدع أبدا بملامح الخونة الجميلة وطيبتهم المصطنعة.

محمد الفريدي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫3 تعليقات

  1. الكلمة تدق الساعة:
    شكرا للمستشار/ محمد بن علي الفريدي،
    لحروف مقالك الذي كتبته بيمناك، وخالج دواخل نفسك، وسطع كضوء الشمس، تحرق من بأصابع يده ما يريب خبثه وسوء نياته.
    كلمة لامست تجربتك في ميدان العمل الأكاديمي الأمني، ومن ثم سردا لتحول ذلك الشخص الوحش الكاسر، بأنياب يفترس بها ما يسد بها رمق جوعه.
    عندما انتقل لموقع آخر، بحكم: كونك مسؤولا وقياديا أمنيا سابقا تعرف دقائق الأمور، كجزء من الثقافة الوظيفية والأمانة والقسم الذي أديته عند تخرجك، الذي كنت، وما زلت تفاخر به.
    وها أنت تنقلها للإعلام الرقمي، لمن لا يعرف خفايا الكثير من الأمور، معترفا لك شخصيا بأنني أول هؤلاء من يجهل ذلك، امتثالا للقول: ليس كل ما يعرف يقال طاب مساؤكم بنقاء حروف ما كتبه قلمك، لا فوض فوك.

  2. مقال رائع ..شفاف ، يرسل إلى كل منا دعوة لمراجعة النفس..عملا ب
    “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا”
    أكاد من فرط روعته أعيد التفكير في تصرفاتي و أقوالي و أفكاري ، فلربما كنت ، دون أن أدري ، من أولئك الذين يقولون مالا يفعلون ويظهرون عكس ما يبطنون..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى