في ظلال المشهد المسرحي

المسرح السعودي في اليوم الوطني

المسرح السعودي في اليوم الوطني

اليوم الوطني السعودي ليس رقمًا في تقويم، ولا احتفالًا عابرًا يبهت مع انتهاء ليلته؛ إنه ذاكرة وطنية متجددة، تنبض في الصدور كما تنبض القلوب، وتتشكل كلوحة عظيمة رسمت خطوطها الأولى بيد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – طيب الله ثراه – ثم امتدت بألوان من القوة والنهضة والإنجازات في عهد أبنائه الملوك، حتى بلغت اليوم ذروة إشراقها بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، ورؤية ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله – التي فتحت أمام المملكة أبواب العالم، وأطلقت طاقات الشباب والإبداع لتعيد صياغة المستقبل بلغة جديدة.
في مثل هذا اليوم، لا يكون المسرح مجرد خشبة وأضواء وكلمات، بل يصبح وطنًا صغيرًا يتجسد أمامنا. كل ممثل على الخشبة ليس ممثلًا فحسب، بل شاهدًا على تاريخ، ورسولًا يحمل رسالة الوطن. كل حركة إضاءة لا تعني مجرد تأثير بصري، بل هي رمز، تارةً علمٌ أخضر يرفرف، وتارةً سيفٌ يلمع، وتارةً صحراء تشتعل ببطولة الأجداد. إن المسرح في اليوم الوطني يتحول إلى مرآة جامعة، يرى فيها السعوديون أنفسهم، ماضيهم، حاضرهم، وأحلامهم القادمة.
منذ عقود، كان المسرح في اليوم الوطني ينبض في المدارس عبر عروض قصيرة، يقف فيها الطلاب بأصواتهم البريئة وهم يرددون أناشيد الوطن ويؤدون مشاهد رمزية عن التوحيد. كانت بساطة تلك العروض تكفي لتزرع في النفوس بذور الولاء والانتماء. واليوم، ومع البنية التحتية الحديثة للمسارح، ومع الرؤية الثقافية الطموحة، صار المسرح السعودي يتألق في اليوم الوطني بمستوى عالمي، بأوبريتات ضخمة، وعروض غنائية واستعراضية، ومسرحيات تاريخية مشحونة بالرمزية، وأعمال تفاعلية تجعل الجمهور جزءًا حيًّا من الحكاية.

ولعل أبرز ما يميز المسرح في هذه المناسبة هو تعدد ألوانه، فهو لا يقتصر على الأوبريت الغنائي، الذي يبقى أيقونة العرض الوطني، حيث تصدح الأصوات بلوحات تستحضر رحلة التوحيد وملاحم النهضة، بل يمتد إلى المسرحيات التاريخية التي تُعيدنا إلى معارك التأسيس، وتجعلنا نرى الملك المؤسس وهو يقود رجاله بين الرمال والسيوف، ونستحضر وجوه قادةٍ مثل الملك سعود والملك فيصل وغيرهم من بناة الدولة. هذه الأعمال التاريخية ليست ترفيهًا، بل دروسًا للأجيال، تزرع الفخر وتربط الحاضر بالجذور.
أما في الجامعات والمدارس، فإن المسرح يجد حياة خاصة به. في المدارس الصغيرة، يقدّم الطلاب عروضًا بعنوان “راية التوحيد” أو “وطني أمانة”، يتعلمون من خلالها أن الوطن ليس شعارًا يُرفع فقط، بل مسؤولية يحملها كل فرد. وفي الجامعات، يقدّم الشباب أعمالًا فكرية تناقش دورهم في صناعة الحاضر والمستقبل، فيحاورون الوطن على الخشبة، ويسألون: كيف نكون أوفياء للرؤية؟ كيف نحمل الأمانة؟ وهنا يلتقي الفن بالوعي، وتصبح الخشبة مختبرًا للأفكار والآمال.

ويتسع المسرح ليخرج من قاعات العرض إلى الساحات العامة والمولات التجارية، حيث يقام المسرح التفاعلي الذي يشارك فيه الجمهور مباشرة، يغنون مع الممثلين، يرفعون الأعلام، يرددون الأناشيد، أو حتى يمثلون أدوارًا رمزية. هذا النوع من العروض يكسر الحاجز بين الممثل والمتفرج، فيتحول اليوم الوطني كله إلى مسرح كبير يشارك فيه الجميع، وكأن الوطن يقول لأبنائه: أنتم جميعًا أبطالي.

ولا يغيب المسرح النسائي عن هذا المشهد، إذ تُقدَّم أعمال تبرز دور المرأة السعودية في نهضة الوطن، كأن نرى قصة معلمة تبني الأجيال، أو طبيبة تنقذ الأرواح، أو رائدة أعمال تساهم في الاقتصاد الوطني. وهكذا يصبح المسرح شاهدًا على أن الوطن يُبنى بسواعد الرجال والنساء معًا.

الإبداع المسرحي في اليوم الوطني لا يتوقف عند الأشكال التقليدية، بل يبتكر صورًا جديدة، كمسرحية “رحلة علم” التي تبدأ بمشهد طالب في كتّاب بسيط، يكتب حروفه الأولى على لوح خشبي، ثم تنتقل إلى مشهد جامعات عالمية يتصدر فيها العلم السعودي. وبين الماضي والحاضر، يظهر الفرق الهائل، ليقول: التعليم كان ولا يزال مفتاح نهضتنا. وهناك مسرح الضوء والظل، الذي يعتمد على الصور الضوئية ليجسد معالم الوطن: العلم، النفط، الحرمين الشريفين، والنهضة العمرانية الحديثة، في عرض يعتمد على جماليات البصر بقدر ما يعتمد على الإحساس. وهناك مشهد “سعوديون عبر العصور”، الذي يجمع الجد والأب والابن في حوار يفيض حكمة وحنينًا، يتحدثون عن معنى الوطن عبر الزمن، فيربط الماضي بالحاضر والمستقبل بخيط واحد لا ينقطع.

ولأن الطفل هو قلب المستقبل، فقد وجد مكانه في المسرح الوطني أيضًا، حيث تُقدَّم مسرحيات تفاعلية للأطفال، يلونون العلم بأيديهم الصغيرة، يتعلمون أن حب الوطن يبدأ من أبسط الرموز، وتُزرع فيهم قيم الشجاعة والعدل والإيمان والعمل. أما الكورال الوطني فيصعد على الخشبة ليغني جماعيًا بأصوات مئات المشاركين، فتتعالى الأناشيد الوطنية، ويشعر الجمهور أنهم أمام سيمفونية حب للوطن، لا تختلف عن أجمل الأعمال الفنية العالمية.

كل ذلك ما كان ليتحقق لولا جهود وزارة الثقافة وهيئة المسرح والفنون الأدائية، التي جعلت من المسرح ركيزة أساسية في اليوم الوطني. لقد أطلقت برامج دعم الإنتاج المسرحي، جهزت المسارح الكبرى كمسرح الملك فهد الثقافي ومسرح البوليفارد، نظّمت ورشًا تدريبية للممثلين الشباب، وأدخلت أحدث التقنيات من هولوغرام وإسقاط ضوئي ومؤثرات بصرية. وبذلك أصبح المسرح في اليوم الوطني صورة عصرية مشرفة، تجمع بين الأصالة والحداثة، بين التراث والتكنولوجيا، لتقدم للوطن عرضًا يليق بمكانته بين الأمم.

إن المسرح في اليوم الوطني السعودي 95 ليس مجرد عرض فني، بل هو صلاة حب جماعية، وقصيدة تُكتب بالضوء والصوت والدمعة والابتسامة. هو مساحة يلتقي فيها السعوديون جميعًا، يرددون حكاية واحدة: “هذه بلادنا… هذه السعودية”. وما إن يُسدل الستار، حتى ندرك أن العرض لم ينته، بل بدأ في قلوبنا، حيث يظل الوطن هو المسرح الأكبر، ونحن جميعًا ممثلون في ملحمته العظيمة، نمضي بخطى واثقة نحو مستقبل لا يعرف إلا المجد

بقلم : د. عبدالرحمن الوعلان
معد برامج تلفزيونية وكاتب مسرحي

الدكتور عبدالرحمن الوعلان

كاتب رأي ومسرح ومعد برامج ومشرف في ظلال المشهد المسرحي وخبر عاجل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى