كُتاب الرأي

المدح بين التقدير والتمليق

الدكتورة سارة الأزوري

المدح بين التقدير والتمليق

هل صحيح أن المدح في الوجه يعد لدحا ؟
المدح في الوجه سلوك يتباين الناس في حكمه
فبينما يعتبره البعض تعبيرًا عن التقديروالتحفيز، يراه آخرون نوعًا من التملق والمجاملة الزائفة، خاصة إذا كان بلا صدق أو مبالَغًا فيه. في التراث الإسلامي، وردت تحذيرات من الإفراط في المدح، خصوصًا حين يُقال في حضرة الشخص الممدوح لما قد يسببه من فتنة للنفس ورفع للغرور. قال النبي ﷺ: “إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب”، وهو ذم لمن يثنون بغير حق أو لغرض دنيوي، وليس ذمًا لكل مدح صادق وعادل.

المدح ليس مذمومًا بإطلاق، بل يمكن أن يكون سببًا في رفع المعنويات وتحفيز النفس على الاستمرار في الخير، إذا كان صادقًا وموضوعيًا. لكن حين يتحول المدح إلى عادة دائمة أو وسيلة لاستمالة القلوب، يفقد معناه ويصبح نفاقًا مضرًا، وقد يولد شعورًا زائفًا بالتفوق أو الكمال عند الممدوح، ما يدفعه إلى الغرور أو الكسل عن تطوير الذات. كما أن بعض الناس يصبحون مرتهنين لمدح الآخرين، فتتوقف قيمتهم على آراء المحيطين بهم، ويشعرون بالاحباط إذا لم يُمتدحوا، أو يسعون لإرضاء الجميع على حساب أنفسهم.

في بعض الثقافات، ولا سيما العربية، يكثر المدح في الوجه كجزء من المجاملة الاجتماعية، لكن هذا الاستخدام المفرط يجعل الكلمة تفقد صدقها، ويصعب التمييز بين الصادق والمجامل. في مثل هذه البيئات، يكون الصمت أبلغ من الكلام، إذ قد يُساء فهم المديح أو ينشأ عنه نزاع أو فتنة.

لكن مع كل ذلك، يواجه الإنسان أحيانًا مشكلة أشد تعقيدًا، وهي أن بعض الناس يحملون ضغينة إن لم يُمدحوا أو إذا كان مدحك متزنًا لا يطابق هواهم، وحتى النقد الهادف قد يُفسر على أنه جفاء أو عداء. وهنا يظهر السؤال المهم: هل تصارح هؤلاء بصدقك، وتحمل تبعات ذلك من خسارة أو خصومة، أم تميل إلى المجاملة حفاظًا على العلاقات ولو على حساب الحقيقة؟

الجواب لا يمكن أن يكون مطلقًا. الصراحة فضيلة عظيمة، لكنها ليست دائمًا حكمة إذا قيلت بلا تروي أو دون مراعاة للمقام والمستمع. قد تكون الصراحة الجافة جرحًا لا يستحق، وقد تُفسد علاقات مهمة. ومن جهة أخرى، المجاملة ليست بالضرورة كذبًا أو نفاقًا، بل قد تكون فنًا في تهذيب الكلام وإيصاله بلطف. فمثلاً يمكن أن تمدح جهد شخص ولو كان دون المستوى، وتضيف له ملاحظات بناءة بلين ورقة.

عندما يكون الطرف الآخر غير مستعد لتقبل النقد أو الرأي المختلف، يكون أمامك خياران: إما أن تبتعد عن الجدال ولا تُصرّح برأيك، أو أن تحاول أن تقدم النقد بطريقة غير مباشرة، عامة أو بروح مرحة. أما إذا استدعت المصلحة أن تكون صريحًا، فكن حكيمًا في اختيار كلماتك، وابدأ بالإيجابيات، ثم أشر إلى النقاط التي تحتاج لتحسين. وفي بعض الحالات يكون السكوت أبلغ من الكلام، و”خير من إجابته السكوت”.

بالتالي، المدح في الوجه ليس مذمومًا أو محمودًا بإطلاق، بل هو مسألة تحتاج إلى توازن دقيق بين الصدق، والنية الحسنة، ووعي بمكانة الشخص، وحالة العلاقة. الكلمات قد ترفع أو تهدم، فقل خيرًا بميزان، أو اصمت إن خفت أن تفتن أو تجرح.

المدح كالدواء، إن أُعطي بقدر وبصدق نفع، وإن أُفرط فيه أو أُعطي لمن لا يستحقه أضر. والصدق مع النفس ومع الآخرين، مع ضبط الأسلوب والوقت، هو مفتاح التعامل الصحيح مع المدح والنقد على حد سواء.

كاتبة رأي

 

 

الدكتورة سارة الأزوري

أديبة وشاعرة وقاصة وكاتبة رأي سعودية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى