كُتاب الرأي

المتاجرة بالرقاب وقتل روح التسامح

المتاجرة بالرقاب وقتل روح التسامح

مشعل الحارثي

كثرت في الآونة الأخيرة وخاصة خلال المواسم الدينية كشهر رمضان المبارك واشهر الحج الإعلانات عبر المواقع ووسائل التواصل الاجتماعي التي تسترحم القلوب وتستعطفها للمساهمة في دفع بعض الديات وكم شد انتباهي واثارني تلك المبالغ والأرقام الفلكية لهذه الديات والمبالغات الغير معقولة والتي تجاوزت بعضها الـ (50) مليون ريال وربما أكثر من ذلك أو أقل وكظاهرة غير صحية بدأت تنتشر في العقود الأخيرة وخاصة في المجتمع القبلي وتتطلب الوقوف ضدها وعلى كل المستويات بكل قوة وحزم وصرامة لأنها اولاً واخرا تنقل للأخر صورة سيئة عن المجتمع وتسمه بأنه مجتمع لا يبحث إلا عن أمور الدنيا ومباهجها ، ويتيح الفرصة سانحة للوسطاء والمتاجرين بالدماء للاستفادة من هذا الأمر سواء بالعلن او بالخفاء ،بينما هي لا تمثل حقيقة ما ميزنا الله به في هذه البلاد من نعمة الدين الإسلامي الحنيف وما اقره من مبادئ وقيم وأخلاق عربية أصيلة كانت سائدة منذ العهد الجاهلي ، وما ذاك الا لأهميتها ودورها في إضفاء مظلة المحبة والوئام والتألف والتراحم والتأخي بين الناس لتستمر مظلة الحياة الأمنة المطمئنة.

هذا إضافة الى ما تتحمله أسرة الجاني واقربائه وأصدقائه المغلوب على أمرهم من كبد وشقاء ودفق لماء الوجه لاستعطاف قلوب الناس غنيهم وفقيرهم وحثهم للمساهمة والتبرع لجمع قيمة و ثمن التنازل المشروط لإنقاذ رقبة ابنهممن حد القصاص، بل وصل الأمر لدى أغلب القبائل جمع مبالغ هذه الديات من افرادها والزامهم بذلك دون مراعاة لمستوى دخولهم والتزاماتهم الأخرى.

وكما شرع الله القصاص في القتل العمد لردع من تسول له نفسه ازهاق أرواح البشر بغير حق إلا أن المولى عزوجل ورأفة بعباده وبذوي القاتل والمقتول خيرهم بين امرين آخرين الأول دفع ذوي القاتل الدية المقررة شرعاً لأصحابالدم  كما قال تعالى : (ودية مسلمة الى أهله) والتي لا تتجاوز حالياً وحسب علمي (300) ألف ريال بناء على ما استقرت عليه الجهات الشرعية مؤخراً بدلاً من (100) الف ريال المقررة منذ عقود سابقة ، والأمر الثاني وهو العفو والتسامح وابتغاء وجه الله وعفوه ورضاه وتغليب معاني الرحمة والشفقة والإيثار، هذا الأمر العظيم الذي اغفله الناس وتغاضوا عنه وأغلقوا باب (العفو عند المقدرة) بينما هو المحبب الى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال الحق تبارك وتعالى ( فمن عفا وأصلح فاجره على الله) وما بين الأمرين الأول والثاني يقفز ذلك التساؤل هل يا ترى يستوي فعلاً من يملأ قلبه الطمع والجشع ويطلب فتات الدنيا ومتعها الزائلة بمن يسعى للظفر بموعود الله ويكون ممن خصهم بفضله واجره العظيم عندما ينادى يوم البعث أين الذين أجرهم على الله ؟ فيقبل الصابرون والصائمون والعافون عن الناس.

ولعل من الصور والمظاهر السلبية الغير مقبولة والتي لا تتماشى مع أصالة الشعب السعودي وخاصة المجتمعات القبلية ما يصاحب جمع هذه التبرعات من إعلان الأهازيج والاناشيد والتفاخر بكل مبلغ يأتي من سداد قيمة الدية ونشر ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي، وكان الأمر تحول إلى مهرجان شعبي كبير دون النظر لمشاعر الطرف الآخر وحرمة الميت والتي ربما قد تؤثر كثيراً على مجريات التنازل ويدفعهم ذلك لإطالة المدة والمماطلة في إكمال الإجراءات.

وأمام هذه الظاهرة الغير منطقية والتي تدعو الى القلق وبدأت تستشري في المجتمع بشكل كبير نطالب الجميع من شيوخ القبائل والوجهاء والأعيان ورجال الأعمال وأصحاب الرأي والمشورة ومؤسسات المجتمع المدني، وجمعية حقوق الإنسان التعاون التام لمحاربة هذه الظاهرة والاهتمام بالجانب التوعوي لإيقاف هذه المبالغات التي لا يقرها منطق ولاعقل ولا ضمير إنساني.

كما يتطلب الأمر ايضاً سرعة التدخل الفوري للجهات الرسمية وذات العلاقة لوضع تنظيم رسمي ملزم بهذا الشأن وإلزام الجميع بعدم المساهمة في هذه المبالغ المليونية معتحديد سقف أدني وحد أعلى لهذه الديات وان لا تزيد عن (500) ألف ريال.

وفي هذا الصدد فلا ننكر جهود لجان اصلاح ذات البين في إمارات المناطق واسهاماتها الجليلة في عتق مئات الرقاب من حد السيف وحل الكثير من الخصومات والنزاعات بالتراضي بين المتخاصمين وهي جهود تذكر ويشكر كل القائمين على شئونها، سائلاً الله في الختام أنيوفق الجميع لما يحبه ويرضاه وأن تتظافر كافة الجهود لمحو تلك الصورة السلبية وقرصنة جمع المال وحتى لا يبقى للتسامح والعفو ونيل الأجر من الله ثمن مادي فقط.

كاتب رأي 

mishaalalh94@gmail.com

مشعل الحارثي

كاتب رأي وإعلامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى