
**الكوميديا في رِحاب العظماء **
في خضم الضغوط اليومية وتراكم الأعباء الحياتية يظل المرح والدعابة نسمة هواء نقية تعيد للروح اتزانها وتنعش القلوب المتعبة.
الكوميديا ليست مجرد ضحك عابر أو نكتة تُروى في المجالس، بل هي حاجة إنسانية أصيلة ووسيلة فطرية للتواصل وتفريغ المشاعر وصناعة الألفة بين الناس؛ فمنذ فجر التاريخ، كان الضحك جزءًا من سلوك البشر، وتشير الدراسات الحديثة إلى أنه يحفّز إفراز هرمونات السعادة مثل الإندورفين والسيروتونين ويخفض مستويات التوتر والقلق؛ بل إن الأطفال يضحكون مئات المرات يوميًا، بينما يقل معدل الضحك مع التقدم في العمر نتيجة ضغوط الحياة وتعقيداتها ما يجعل المرح ضرورة للحفاظ على التوازن الداخلي، فهو ليس مجرد تعبير عن الفرح، بل هو جسر للتقارب الاجتماعي في المجالس العائلية، وفي ساحات العمل، وحتى في الأزمات، تبقى الدعابة وسيلة لتخفيف التوتر وكسر الحواجز وصناعة روابط إنسانية حقيقية، ومن أجمل ما يُذكر في التاريخ أن القادة العظماء والأنبياء والعلماء كانوا يتحلون بليونة التعامل، وروح الدعابة، فكانوا عليهم الصلاة والسلام لطفاء يداعبون من حولهم ويكسرون بذلك جمود الهيبة ليصلوا إلى قلوب الناس قبل عقولهم. وقد أثبتت البحوث الطبية الحديثة أن الضحك المنتظم يعزز المناعة عبر زيادة نشاط الخلايا البيضاء، ويحمي القلب بخفض ضغط الدم وتنشيط الدورة الدموية، ويحارب الاكتئاب بتحسين المزاج وإعادة التوازن الكيميائي في الدماغ، كما يقوي العلاقات الاجتماعية عبر زيادة الثقة والتواصل الإيجابي بين الأفراد، وقد اعتمدت بعض برامج العلاج النفسي الحديثة على ما يُعرف بـ”العلاج بالضحك”، حيث تُستخدم الكوميديا لتخفيف الصدمات النفسية ومعالجة القلق.
ولا تقف الكوميديا عند حدود الترفيه، بل تتجاوزها لتصبح مرآة للواقع، تكشف عيوب المجتمع وتطرح القضايا بأسلوب لطيف يسهل تقبّلها ويثير النقاش بلا حواجز، ومنذ المسرح الإغريقي وصولًا إلى السينما الحديثة، كانت الكوميديا وسيلة فاعلة للنقد البنّاء وإحداث التغيير الاجتماعي، ومع ذلك يبقى الفارق واضحًا بين الدعابة الراقية التي تُضحك دون إيذاء، وبين السخرية الجارحة التي تترك ندوبًا في القلوب؛ فالدعابة الحقيقية تبعث البهجة وتحافظ على الاحترام وتجعل من الضحك طاقة إيجابية خالصة.
كان النبي محمد ﷺ مثالاً حيًا للقلب الرحيم والروح المرحة؛ فهو لم يكن نبيًّا ورسولًا فحسب، بل إنسانًا يعرف كيف يخفف عن أصحابه أثقال الحياة ويمنحهم مساحات من البهجة والضحك البريء، فقد كان يمزح مع أصحابه دون أن ينفصل مزاحه عن الحق، فقد قال له بعضهم يومًا: “إنك تداعبنا”، فأجاب مبتسمًا: “إني لا أقول إلا حقًّا”.
وكان ينادي أنس بن مالك، خادمه الصغير، بلقب لطيف فيقول له: “يا ذا الأذنين”، فيضحك أنس خجلًا وسعادة.. وفي موقف آخر، جاء رجل يطلب أن يحمله النبي ﷺ على دابة، فقال له مازحًا: “إني حاملك على ولد الناقة”، فتساءل الرجل: “وما أصنع بولد الناقة؟”، فأجابه النبي مبتسمًا: “وهل تلد الإبل إلا النوق؟”، فانفجر الصحابة ضحكًا من خفة ظله.
حتى في المواقف الحرجة، كان النبي ﷺ يجعل الرحمة طريقه إلى القلوب، ففي حادثة الأعرابي الذي قضى حاجته في المسجد، همّ الصحابة بزجره، لكن النبي ﷺ قال: “دعوه، لا تزرموه”، ثم جلس معه يشرح له بلطف آداب المساجد، فتحوّل الموقف من توتر وغضب إلى درس عملي في الرحمة وحسن الخلق. وفي بيته، لم تغب الدعابة عن النبي ﷺ، فقد روت أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها -فيما ما معناه- أن إحدى زوجاته كسرت صحن طعام أمامه غضبًا، فما كان منه إلا أن جمع الطعام بيديه وقال مبتسمًا: “غارت أمكم… غارت أمكم”، ثم أرسل صحنًا آخر بدل الذي انكسر، فضحك الجميع في موقف يعكس سعة صدر النبي ﷺ وبساطته داخل بيته.
ومن أطرف الشخصيات التي عاشت في زمن النبي ﷺ، الصحابي النعيمان بن عمرو الأنصاري، الذي كان يُلقب بـ”صديق الدعابة”، ففي إحدى المرات، اشترى لحمًا للنبي ﷺ وقدّمه له قائلًا: “هذا أهديته لرسول الله”، فلما جاء البائع يطلب ثمنه، ضحك النبي ﷺ وقال: “أو لم تهده لي؟”، ثم دفع ثمنه بابتسامة. وفي قصة أخرى، ربط أحد الأعراب ناقته قرب المسجد، فأقنع الصحابة النعيمان بذبحها ليأكلوا منها، وما إن فعل ذلك حتى صاح الأعرابي: “واعقراه يا محمد!”، فبحث الصحابة عن النعيمان حتى وجدوه مختبئًا بين النخل، ونزع النبي ﷺ التراب عن وجهه وهو يضحك، ثم عوّض الأعرابي عن ناقته.
كان النبي ﷺ أيضًا قريبًا من الأطفال والأهل، يمازحهم ويداعبهم ليشعروا بقيمتهم. كان الحسن والحسين يركبان على ظهره وهو ساجد، فيتركهما حتى ينتهيا من اللعب، وعندما قال أحد الصحابة مازحًا: “يا له من حصان رائع”، ابتسم النبي ﷺ وقال: “ونعم الفارسان هما”. وفي بيته، كان يمزح مع أهله بلطف، ففي يوم لطخت السيدة سودة وجه السيدة عائشة بطعام أمامه، فضحك النبي ﷺ وأخذ بيده شيئًا من الطعام ومسح به وجه سودة، في مشهد مرح أدخل السرور على الجميع.
لم تكن دعاباته سطحية، بل كانت تحمل رسائل تربوية عميقة. عندما جاءت امرأة عجوز تطلب منه الدعاء بدخول الجنة، قال مبتسمًا: “لا تدخل الجنة عجوز”، فبكت حزنًا، ثم قال لها ضاحكًا: “إنك يوم تدخلينها تكونين شابة”، ليطمئن قلبها ويضيء الأمل في عينيها.
تعددت المواقف التي أضحك فيها النبي ﷺ أصحابه وأهله، لكنها جميعًا اجتمعت على خُلُق واحد: التواضع واللطف، ولم يكن ضحكه يخرج عن الحق، ولم تكن دعاباته تحمل استهزاءً أو انتقاصًا، بل كانت جسرًا من المحبة يربط قلب القائد بعامة الناس، حتى شعر كل فرد أنه قريب منه.
إن الدعابة في زمن النبوة وفي رحاب العظماء كانت أداة لتقوية العلاقات الإنسانية وترسيخ القيم النبيلة بروح لطيفة. فقد علم النبي ﷺ أصحابه أن الفرح عبادة، وأن القلوب القاسية لا تصنع مجتمعًا سليمًا. وفي زمن يزداد فيه التوتر والضغط النفسي، والتراكمات المؤلمة تبقى هذه المواقف دعوة لنا جميعًا لإعادة البساطة إلى حياتنا، والتعلّم أن اللطف والابتسامة قد تغيّر القلوب وتفتح أبواب المحبة.
ومن هذا المنطلق ينبغي لكل إنسان أن يجعل المرح والدعابة جزءًا من تواصله مع الآخرين في العائلة أو العمل أو المجتمع، لأن كلمة لطيفة أو ابتسامة صادقة يمكن أن تخفف هموم الآخرين، وتقرب القلوب، وتخلق أجواءً من المحبة والتفاهم، فالضحك والعفوية ليست ترفًا، بل هي سلوك حضاري يعزز التماسك الاجتماعي ويجعل الحياة أكثر جمالًا وسعادة..