كُتاب الرأي

القُبلة السَّاحرة

تبدو حياة الشعراء للوهلة الأولى ممتزجة بالسحر والجمال، فهم المغرمون بحب الأوطان حتى الثمالة، ولا غرابة في ذلك فالوطن الجريح، يغرس لدى أبنائه من الأدباء والشعراء وكبار الفنانين، الكثير من مشاعر الحماس والذود عنه بكل ما يمكنهم الدفاع عنه، بشتى أنواع الأسلحة الناعمة ومنها سلاح القلم والريشة للوحة تشكيلية ببهاء اللون، وسريالية الصورة الجمالية والإبحار في عالم الخيال متمردة على واقعية الحياة هروبا من بعض مزالقها وما أكثر هذه المزالق، فهل هناك أقوى من جمال الكلمة؟ وتراقص الحروف بين أنامل الفنان، والتسابق بالعنفوان حد الجنون، أنه الشعور بقيمة المكان والزمان، وذلك ينطبق على من كانت مكاسبهم حب الوطن، وصولا لأهدافهم السامية، لتكون الحقيقة الساطعة، الوطن أولا وأخرا، وفي قديم الزمان وأحاديث الناس نماذج تُذكر فتعرف، تعَلّقَ حًبَّها بديمومة الحياة وجمالها، فكان ذلك أقصى ما تصل إليه خواطر أفكارهم فالجمع بين حب الوطن مهما كانت جراحه، وبين حب وانتقاء شريكة الحياة، بشكل دراماتيكي dramatic ومثير هو الأقرب للخيال، وقصص ألف ليلة وليلة، فنحن أمام قصة حُبْ رومانسية، حدثت خارج الديار، وبعيدة عن كل التقاليد المتعارف عليها في شرقنا العربي، لأديب جال بقصائده وغزارة شعره، مدن وعوالم كثيرة بعضها من نسج الأحلام وسياسة الأوهام وإن لم ترتبط بها صلة من قريب أو بعيد، ولاسيما في قضايانا العربية التي طال ببعضها الزمن، انتزعت أراضيها من بين أيدي أبنائها وأدبائها، لكنها بقيت عالقة في ذاكرة الأدب والفكر والوجدان، القصة والقبلة الساحرة التي نحن بصددها بطلها الشاعر الكبير محمود درويش، الذي سُمح له لدخول الولايات المتحدة الأمريكية وحُدِّد له يوما واحدا فقط زمن التأشيرة التي منحت له لدخول الأراضي الأمريكية، جاء يحمل بين حنايا أضلعه ونبض قلبه، حزم من الأحاسيس والمشاعر للدفاع عن قضيته “فلسطين”، القضية التي حازت على آراء الشرفاء، لحضوره جلسة هيئة الأمم المتحدة، بدعوى من جامعة جورج تاون، وقراءة نصوص شعرية لعدد من قصائده، قادته ليلتقي بشريكة حياته فيما بعد ! رنا صباح قباني، صدفة بدون سابق ميعاد، ولكنها سهام الُحبْ لاتخطيء خفقات القلوب، ومع حميمية اللقاء السياسي الأدبي، بتلك القاعة المكتظة بالمجتمعين، كان المشهد ينم عن لقاء غرامي بين الشريكين، أعقبه قبلة وداعية طبعت على خد الحبيبة الحسناء عروسته الأنيقة، ورسالة غرام من الفاتنة رنا قباني الكاتبة والأديبة والمؤرخة، لعمِّها الشاعر الكبير نزار قباني، ولقصيدته الرائعة “قارئة الفنجان”، التي غنَّاها العندليب الأسمر “عبدالحليم حافظ”، وأظنها آخر المشور في حياته الفنية رحمه الله، ومع تدفق حرارة اللقاء لتلك القبلة السَّاحرة، قرر العاشقان محمود درويش ورنا قباني الزواج، بصورة أسرع من كل التوقعات، والذهاب عاجلا لجامع واشنطن، لعقد قرانهما هناك، ومغادرة المدينة قبل انتهاء زمن التأشيرة الاستثنائية، في اتجاه عاصمة السِّحر والجمال باريس مدينة الأناقة والفن، وسط أجواء زادت اللقاء حرارةً ودفئاً، استمر لأربع سنوات، انتهى بالانفصال المتعارف عليه حضارياً، في بداية الثمانينات الميلادية من القرن الماضي، ليعيش محمود درويش وحدته الأولى قبل ارتباطه بالزوجة الثانية، يقارع الأيام وطول اليال، مع نصوصه الشعرية، التي نتفق معه في بعضها ونختلف في بعضها الأخر، خالص الدعاء لشاعر الرومانسية محمود درويش بالرحمة والمغفرة، وتقدير خاص لسيدة الأناقة وجمال الحرف والكلمة “رنا قباني”، احتراما لما كُتب عن قدسية ذلك الزواج، والتزامه بكثير من السرية.

* محمد حامد الجحدلي

الدكتور محمد حامد الجحدلي

مستشار رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى