سلم لي على البدنجان

محمد الفريدي
سلم لي على البدنجان
إذا شعرت بتدهور في حالتك الصحية أو النفسية أو المزاجية، ووصلت تفاصيل حياتك اليومية إلى حد الاشمئزاز والغثيان، فاعلم أن هناك أزمة ثقافية في مجتمعك قد بلغت ذروتها، ولكن لا أحد يراها سواك وسوى “المغثوثين” الذين أنهكتهم حتى النخاع.
لقد أصبح مشهدنا الثقافي المتكرر منذ زمن بعيد قاعدة انطلاق ثابتة، ترسخت بالعادات والتقاليد، وأصبح مألوفا في مجتمعاتنا العربية، بل وحتى في المجتمعات الغربية التي تدّعي تبنّي القيم الإنسانية وهي بعيدة عنها كل البعد.
وهذا التناقض الفاضح يكشف زيف ادعاءاتنا وادعاءاتهم، ويؤكد أن القيم الحقيقية لا تُقاس بالشعارات، بل بالممارسات الفعلية التي نترجمها على أرض الواقع، لتعكس جوهر مبادئنا الحقيقية.
نحن نعيش في خضم أحداث جسام، لا يشعر صُناعها بأي حرج وهم ينظّرون علينا بما لا يقبله العقل، وكأنها أمور طبيعية ينبغي علينا قبولها، ولا تستدعي الاستغراب أو الرفض بأي حال من الأحوال.
فقد أصبح الدافع الأساسي للكثيرين منا هو تحقيق المصالح الشخصية على حساب المبادئ والقيم، مما أدى إلى تراجع المصداقية وحلول المصالح الشخصية محل المسؤولية الجماعية. وأصبح انتماؤنا محكوما بالنزعات الفئوية والولاءات الضيقة تحت شعارنا الخالد: “وماذا سأجني أنا؟!”
يفترض، يا سيدي، أن تشهد المملكة تطورا ثقافيا يعكس التحولات الاجتماعية والاقتصادية، و تمتد الثقافة السعودية في عمق التراث العربي والإسلامي، وتواكب متغيرات العصر الحديث دون فقدان هويتها أو الانجراف نحو التبعية الثقافية، ولكن كما في أي مجتمع يشهد تحولات كبرى، تواجه الساحة الثقافية السعودية تحديات، خاصة مع تداخل المصالح الشخصية بالمبادئ الفكرية، مما يثير التساؤلات حول قدرة ثقافتنا على الحفاظ على نقائها بعيدا عن التأثيرات غير الموضوعية.
ومن أبرز التحديات التي تواجه الثقافة السعودية اليوم صراع المفاهيم بين الحفاظ على القيم التقليدية والانفتاح الثقافي.
في خضم ذلك، تظهر مواقف متناقضة حيث يطالب البعض بالحداثة ثم يرفضونها عندما تتعارض مع مصالحهم، مما يحول الحوار إلى جدل بيزنطي يغيب الموضوعية لصالح المصالح الفردية. ونرى التناقض في سلوكيات بعض الفئات الثقافية التي تدافع عن قضايا الحداثة والانفتاح، ثم تنقلب عليها عندما تتعارض مع قناعاتها، مما يخلق فوضى فكرية يصعب التمييز فيها بين المدافع الحقيقي عن القيم والمستغل للثقافة لتحقيق مكاسب شخصية.
من أبرز الأمثلة على ذلك الجدل الحاصل في أوساط بعض المثقفين اليوم حول لقاء معالي وزير الإعلام الأستاذ سلمان يوسف الدوسري مع الإعلامي المتألق دائما عبدالله المديفر في برنامجه الشهير “الليوان”، حيث تعود بعض الأصوات التي دافعت عنه سابقا في مجالسنا للتشكيك في نزاهته ونزاهة وزارته بسبب اختلاف المصالح، والازدواجية التي تضعف مصداقية المشهد الثقافي وتؤثر على قيم الحوار الفكري، الذي يجب أن يكون قائما على النقاش العقلاني لا العاطفي المتقلب بسبب تقلب المزاج.
إن بناء إعلام وثقافة قوية في السعودية، معالي الوزير، لا يتحقق إلا من خلال ترسيخ مبادئ النزاهة والموضوعية في العمل الإعلامي والثقافي، سواء في الأدب أو الفنون أو الدراسات الأكاديمية، بحيث تعكس ثقافتنا واقع مجتمعنا السعودي وتؤثر في مستقبله تأثيرا مباشرا.
وإذا لم يكن هذا التأثير قائما على أسس راسخة تعزز الهوية وتحفز على الإبداع، سنجد أنفسنا أمام مشهد ثقافي هش، يتأثر بالتيارات العابرة بدلا من أن يكون قوة فاعلة تصنع المستقبل وتذلل المستحيلات.
لذلك، فإن مسؤولية الحفاظ على الثقافة السعودية لا تقع على جهة واحدة فقط، بل هي مسؤولية مشتركة تقع على عاتق وزارتك أولا، ثم على عاتق وزارة الثقافة ثانيا ، ثم على المفكرين، والكتاب ، والإعلاميين، والأكاديميين، والجمهور العام، حيث يشارك كل فرد في تشكيل الوعي الثقافي والمشهد الإعلامي من خلال إنتاج المعرفة، ودعمها، أو نقدها بشكل بنّاء.
ومن دون هذا التعاون الجماعي، لن نتمكن من مواجهة التحديات الثقافية العصرية وبناء مستقبل يظل فيه تراثنا حيا ومتجددا للأجيال القادمة، فمن خلال هذه الجهود فقط، معالي الوزير، سنضمن أن تبقى الثقافة السعودية قوة فاعلة تسهم في تشكيل عالمنا المعاصر وتحتفظ بمكانتها المتميزة في الساحة الثقافية.
الثقافة السعودية، يا معالي الوزير، بمزيجها بين التراث والحداثة، قادرة على أن تكون نموذجا فريدا في المنطقة إذا وعي الجميع دورها ورفضوا استخدامها لتحقيق مصالح ضيقة.
فالمجتمع الذي يحترم ثقافته ويصونها من العبث هو الذي يستطيع صناعة مستقبله دون أن يكون رهينة للتناقضات والغزو الفكري والمصالح الشخصية.
والحفاظ على هذه الثقافة يتطلب شجاعة في مواجهة التحديات ومثابرة في العمل على تعزيز قيم الأصالة والحداثة، مع الالتزام التام بمبادئ العدالة والاحترام المتبادل والمساواة، ليظل مجتمعنا السعودي قادرا على تحقيق التقدم والازدهار دون إفراط في أحلامه أو تفريط في هويته السعودية التي نعرفها جيدا وبدأنا جميعا نفرط فيها.
ولتحقيق نهضة ثقافية حقيقية في السعودية، يجب أن تلعب وزارتا الإعلام والثقافة دورا محوريا في تعزيز قيم الانفتاح المتزن وتشجيع الإبداع المعرفي، كما يجب أن نبرز أهمية الهيئات الثقافية، والأندية الأدبية التي أصبحنا نزورها لقراءة أدعية زيارة الموتى والتمسح بجدرانها للبركة، والجامعات، والمراكز البحثية في ترسيخ بيئة ثقافية قائمة على النقد البنّاء والتفاعل الإيجابي مع المتغيرات التي لا تتوقف ولا حد لها.
ولكن لتحقيق ذلك، يجب أن نعيد النظر في ممارساتنا الثقافية الحالية ونعمل جاهدين على إحداث تغييرات جذرية تعيد للثقافة السعودية هيبتها وحيويتها، بما يتماشى مع تطلعاتنا المستقبلية ويعزز مكانتها في الساحة العالمية.
يجب أن تكون مؤسساتكم الإعلامية أولا منصات للحوار الفكري الحر، يتم فيها تداول الأفكار بشكل موضوعي دون تأثير من أفراد أو جماعات أو مصالح معينة. فكلما كانت منصاتكم منفتحة ومتنوعة، زادت فرص إنتاج ثقافة حيوية قادرة على المنافسة عالميا دون فقدان هويتنا. وبذلك، يمكن لمؤسساتكم أن تسهم في بناء جسور ثقافية قوية تعزز التواصل والتفاهم بيننا وبين الشعوب الأخرى، وتعكس صورة ثقافتنا الحقيقية كقوة ناعمة تسهم في تشكيل مستقبلنا ومستقبلهم بثقة ووضوح.
ومن التحديات الكبرى في ثقافتنا السعودية الخلط بين النقد الموضوعي والهجوم الشخصي، فهناك فرق بين الملاحظات المستندة إلى معايير علمية أو أدبية وبين محاولات التشكيك والتجريح لتصفية الحسابات.
هذا التحدي هو ما يضعف قدرة مجتمعنا على التطور والتقدم، ويعيق بناء بيئة ثقافية صحية تقوم على التحليل البنّاء والاختلاف المتزن، ويحد من إمكانيات الإبداع والتقدم في جميع المجالات الثقافية.
المجتمع الثقافي القوي يقوم على تقبل النقد وتقديمه بأسلوب راقٍ يسهم في تطويره، ولا يقوم على المجاملات أو التصنيفات المسبقة.
والنقد، كما يعلم معاليكم، وسيلة لتطوير الأفكار، وهو ما نغفل عنه في الحاضر والماضي.
فإذا استمررنا في تجاهل قيم النقد البناء، سنظل محكومين بالأفكار الجامدة، ولن نتمكن من تحقيق التقدم الثقافي المنشود الذي يعكس تطور مجتمعنا السعودي ويرتقي به إلى مصاف الأمم المتقدمة.
في ظل العولمة والانفتاح الرقمي، أصبحت ثقافتنا السعودية أمام فرصة عظيمة لتقديم نفسها للعالم بصورتها الحقيقية، بعيدًا عن التشويه الإعلامي الذي كان يحدث في الماضي.
فالمملكة تمتلك إرثا ثقافيا غنيا يمكن أن يكون جزءا من الحوار الثقافي العالمي وتصبح نموذجا يُحتذى به في التوازن بين الأصالة والتجديد، مما يتيح لها المساهمة الفاعلة في هذا الحوار ويعزز من مكانتها على الساحة الدولية.
ولتحقيق ذلك، يجب دعم الإبداع المحلي، ومنح مساحة أكبر للمبدعين الشباب، وتشجيع المبادرات الثقافية والصحف الإلكترونية التي تعزز الهوية السعودية وتلعب دورا مهما في ربط التراث بالحداثة، والمحلي بالعالمي، دون أن نفقد الطابع الأصيل لثقافتنا وهويتنا.
وإذا ما تحقق هذا التناغم بين التراث والحداثة، فإننا سنتمكن من بناء ثقافة سعودية قادرة على التأثير في الساحة العالمية، لتكون نموذجا يحتذى به في توازنها بين الأصالة والابتكار والتجديد.
إن الثقافة السعودية اليوم يا سيدي تواجه تحديا كبيرا ، لكنه يحمل فرضا غير مسبوقة. فالمجتمع السعودي مجتمع شاب ومتعلم وقادر على صياغة نموذج ثقافي متوازن يجمع بين الأصالة والتجديد، وبين التقاليد والانفتاح المتزن.
وإذا تم استثمار هذه الفرص بشكل صحيح، فإن ثقافتنا المحلية ستصبح نموذجا يحتذى به في التفاعل بين الهوية الوطنية والعالمية، وسنُسهم بشكل فعال في تعزيز مكانة المملكة على الساحة الثقافية الدولية.
ولكن لتحقيق ذلك، يجب ترسيخ قيم الحوار والشفافية وتجنب الاستقطاب الثقافي المعمول به في الدوائر المغلقة أولًا، فالثقافة مساحة لتبادل الأفكار وبناء مجتمع واعٍ يحترم ماضيه ويصنع مستقبله بثقة.
فإذا لم نحرص على بناء هذا الحوار الثقافي بهذه المعايير ولم تستطع وزارتكم المحترمة بكل إمكانياتها القيام بذلك، سنظل ندور معا بين دائرتي الجمود والضبابية، ولن نتمكن من تحقيق التنمية الفكرية المستدامة التي نسعى إليها جميعا وإحداث التأثير الحقيقي في العالم من حولنا، وبغير هذا (سلم لي وانت رايح في طريقك على البدنجان).
أشكرك أستاذ محمد على مقالك الرائع الذي يناقش قضية مهمة وهي الواقع الثقافي والاجتماعي في بلدنا العزيز وما يعيشه من تناقضات ويواجهه من تحديات وما هي الحلول الممكنة. تقبل خالص تقديري واحترامي والله يحفظك ويرعاك.
لقد تناولت في مقالك العديد من النقاط التي تستحق التوقف والتفكير العميق، ولقد عرضت بشكل واضح التحديات التي تواجه الثقافة السعودية في مرحلة من التحولات الكبرى. أعتقد أن تعبيرك عن الأزمة الثقافية التي يعيشها المجتمع هو انعكاس حقيقي لما نشهده من صراع بين التقاليد والحداثة، وبين المصالح الفردية والمبادئ العليا.
في هذه المرحلة، الثقافة ليست مجرد ترف فكري، بل هي عنصر أساسي في تشكيل هوية الأمة وصياغة مستقبلها. ولذلك، فإن أهمية التركيز على المبادئ الأساسية التي تقوم عليها ثقافتنا، مثل النزاهة والموضوعية في الإعلام والفنون، هي نقطة محورية يجب أن تظل في قلب كل نقاش حول المستقبل الثقافي. ومن دون التزام جماعي من جميع الجهات المعنية – من وزارات وأفراد – لن نتمكن من تخطي الفوضى الفكرية التي تسيطر على الساحة الثقافية.
كما أن دور النقد البناء، الذي أشرت إليه، يعتبر أمرًا محوريًا في تطور المجتمع الثقافي، فالنقد ليس هجومًا، بل هو وسيلة لتطوير الأفكار والرؤى. يجب أن نعيد الاعتبار لهذا الدور الهام في عملية البناء الثقافي والفكري.
من الواضح أن الطريق أمامنا طويل، ويتطلب منا جميعًا شجاعة ومرونة في مواجهة التحديات، وكذلك مسؤولية مشتركة لتوجيه هذا المسار نحو تحقيق التوازن بين الحفاظ على هويتنا الثقافية وبين الانفتاح على العوالم الحديثة. فالثقافة، كما ذكرت، هي وسيلة للتمسك بالهوية والتفاعل مع العالم دون التفريط أو التسرع في القبول بالتغيرات التي قد تمس جوهرنا.
ختامًا، يبقى الأمل في أن نبني ساحة ثقافية متنوعة، تحترم الفروقات الفكرية، وتخلق بيئة حوارية صحية تتيح للأفكار أن تتطور، مع الحفاظ على أصالة تراثنا الوطني. وكل ذلك يتطلب الإيمان الكامل بدور الثقافة في تشكيل المجتمع، وضرورة العمل الجماعي من أجل مستقبل أكثر إشراقًا ومشاركة حقيقية في بناء هوية ثقافية سعودية قادرة على التفاعل مع العالم بروح متجددة ولكنها متمسكة بجذورها
الأستاذ محمد الفريدي، رئيس التحرير المحترم،
قرأت مقالكم “سلم لي على البدنجان” وأنا أعجز عن وصف مدى إعجابي وتحسسي للرسالة العميقة التي حملها مقالكم .
إن كلماتكم تلامس الواقع الثقافي والاجتماعي في مجتمعنا بكل دقة وصدق، وتُظهر ببراعة التحديات التي نواجهها في الحفاظ على هويتنا الثقافية أمام العوامل المتغيرة. لقد تمكنتم من التعبير عن أزماتنا الثقافية والنفسية التي يعاني منها الكثيرون من دون اللجوء إلى المبالغة، بل بأسلوب مباشر وواقعي.
مقالكم ليس مجرد تحليل نقدي، بل هو دعوة للتفكير العميق في واقعنا الثقافي والتحديات التي نعيشها. طرحتم بأسلوبكم المميز تساؤلات هامة حول التناقضات في المواقف الثقافية والسياسية التي نراها في مجتمعنا، وسلطتم الضوء على ضرورة العودة إلى المبادئ الثابتة التي تعزز النزاهة والموضوعية في جميع مجالات الثقافة والإعلام.
أشكركم على هذا المقال الرائع الذي فتح أمامنا أبواب التفكير النقدي والمراجعة العميقة لما نعيشه اليوم. مع خالص تقديري واحترامي لكم على هذا الجهد الفكري المتميز👍.