القبور الضيقة

بقلم/ د. شادي الكفارنة
عندما يموت الناس تُجهز لهم ترتيبات التشييع والدفن في قبور تحوي أجسادهم، وتغطي عوراتهم تحت الأرضِ حتي يتم تجهيزات استقبال العزاء، ولكن في تجربة الحرب المميتة التي عشناها في غزة تغيرت مراسم الدفن لتكون القبور في حفر صغيرة ضيقة لا تتجاوز السنتمترات في العرض والطول لا تتسع امتداد أقدام المتوفى، ويكون في حفرة مضغوطًا للجسد محشورًا للأطراف مركونًا على حافة الحفرة مركوزًا بحفنات من الرمل.
يا لهذا القهر!! مظلومين أحياءً مأسورين أمواتًا في حفرة لا تليق بموتنا ولا تتسع لأجسادنا، ظُلمنا حتى في موتنا وضاقت علينا قبورنا فأصبحت لا تتسعنا ، ويفيض منها حزنًا وألمًا ، قبورًا ضيقة تحت الأرض بعدما كانت ضيقة فوق الأرض تحت ردم المباني وتحت الركام وجثث الأموات والأحجار والرمال عليهم، لم يعرف مصير دفنهم هل كانوا أحياءً أم أمواتًا في مكان ضيق لا يتسعهم، وليس ممددًا ليموت براحة جسده، قد يكون رأسه تحت قدميه أو مقطعًا أشلاءً غير مجمعة حتى يُدفن مكرمًا في قبره تحت الأرض.
كشفت الحرب أن الموت أرخص ما يكون في سوق الحرب، والقبر أغلى ما يكون في سوق التجارة، معادلة غريبة لا تليق بالإنسانيّة، خصوصًا أن عدد ضحايا الحرب بالآلاف منهم من دُفن في حفر صغيرة ضيقة تحت الأرض، ومنهم مفقودًا لا يُعرف مصيره إلى يوم البعث، وعدد من يموت أكثر من عدد مشيعيهم محملين مقطعين في أكياس بلاستيكية.
وفي حادثة عجيبة في الحرب أثناء دفننا ضحايا الحرب صار حوارًا وتعالت فيه الأصوات بين الذين يحفرون قبرا لا يتسع للجثة، وفي الطبيعي أو وفق الظروف العادية ما قبل الحرب يكون حجم القبر أكبر ومعلمه أوضح وحفرته أعمق، فجأة يتم إنزال المتوفين في قبور ضيقة لا تعلو عن سطح الأرض بعض سنتمترات ، لقد تغيرت معالم الموت تغيرت مراسم الدفن تحولت مشاعر الحزن تبدلت شخصيتنا وانطوت، ثم يُطلب منا ألا نحزن بموتنا.
أخيرًا …
بالرغم من أن قبورنا ضيقة وأمالنا تغيرت سنبقى فوق الأرض أحياء معمرين، وتحت الأرض أمواتًا غير منسيين.
كاتب صحفي وباحث فلسطيني