كُتاب الرأي

الفيل يبرر القتل والحمار يروّج له

محمد الفريدي

الفيل يبرر القتل والحمار يروّج له

لا فرق جوهرياً بين الفيل والحمار؛ فكلاهما يمتلك ذاكرة قوية وقدرة على المناورة، لكنأياً منهما لا يستطيع التفوق على الآخر دون قوة خفية تدعمه وتوجهه.

الغابة التي يتحرك فيها هذان الحيوانان ليست عشوائية كما تبدو، بل تُدار من خلفالكواليس بواسطة “غول” ضخم، يتغذى على الصراعات، ويعيد تشكيل نظام الغابة كمايشاء، وفقاً لمصالحه وحده.

هذا الغول ليس من نسج الخيال، بل هو رمز لهيمنة المال والشبكات الخفية التي تديراللعبة السياسية والاقتصادية من وراء حجاب “الديمقراطية”.

وشعوب العالم تتوهم أنها تختار مصيرها، بينما الحقيقة أن أعين الدولار والمثلثاتالخفية هي من تُحدد الاتجاه وتفرض السياسات، دون اعتبار للعدالة أو الإنسانية.

الفيلة والحمير، في صراعهم، لا يختلفون كثيرًا في المبادئ؛ بل يُجسّدون منظومةواحدة تؤمن بالتفوق الإمبريالي و”الاستثناء الأمريكي”، وهو ما يكشفه التاريخ بوضوح،بدءاً من مجازر أندرو جاكسون ضد السكان الأصليين، مروراً بوصف تيودور روزفلت لهمبـ”الحيوانات”، وصولاً إلى تصريحات قادة الصهاينة الذين يعتبرون الفلسطينيين“حيوانات بشرية”.

في انتخابات عام 2024، تصارعت الفيلة والحمير، وبقيت المنظومة ثابتة.

دونالد ترامب، الفظ والصريح إلى حد الوقاحة، يُجسّد وجه الغول الدموي الشرس بلارتوش، في حين تمثّل كامالا هاريس الوجه الناعم للمنظومة ذاتها.

ورغم اختلاف النبرة، فإن كليهما يسير وفق خارطة طريق واحدة، رُسمت لهما بعناية فيأروقة الغابة المتوحشة.

ففوز ترامب يعني مزيداً من التوتر وانكشاف سياسات الغول، أما فوز هاريس فسيأتيمغلفاً كالعادة بابتسامات دبلوماسية، لكنه لن يخرج عن استراتيجية الهيمنة.

وصراع الفيلة والحمير لم يدر بين رئيسين فقط، بل بين وعي ناشئ يسعى لتحطيمقواعد الغابة، ومنظومة قديمة تحتضر ولكنها تقاتل للبقاء.

اللافت أن هذا الوعي لم يعد حبيس الجامعات الأمريكية وحدها، بل تجاوز الحدود.

ما حدث موخراً في جامعات العالم، وعلى منصات التواصل، وفي شوارع المدنالمحتجة على الإبادة الجماعية في غزة، لم يكن حراكاً عابراً، بل كان ولادة جديدة لفكرعالمي موحد لا يقبل الهيمنة باسم “النظام” ولا الصمت باسم “التحالفات الدولية”.

لقد علت أصوات طلابية وشعبية في العالم تطالب بالعدالة، وتشكك في صدقالشعارات الغربية التي لا تُترجم إلى أفعال.

ولعل السؤال الأهم اليوم هو: هل العالم مستعد حقاً لدفع ثمن الحرية؟

لأن إجهاض مشروع الغول الأمريكي لا يمكن أن يكون بلا تضحيات، والتاريخ علّمنا أن كل فجر يُولد من رحم الظلام، وكل حضارة حقيقية تُبنى على أنقاض حضارة مزيفة.

لم تعد الديمقراطية الحقيقية تعني مجرد صناديق اقتراع، بل أصبحت معارك فكرية ضد هيمنة القوة والنفوذ، وباتت الشعوب أكثر وعياً، وأظهر الإعلام الجديد ما كان يُخفيه الفيل والحمار، فصنع رأياً عاماً قادراً على وضع حد لسطوة الغول.

إن العالم لم يعد يحتمل المزيد من الأقنعة الناعمة والسياسات المموّهة؛ فالشعوبباتت تقرأ ما بين السطور، وتدرك أن من يتحكم في الغابة ليس من يجلس في البيتالأبيض، بل من يملك مفاتيح المال والسلاح والإعلام.

المعركة إذن ليست معركة بين فيل وحمار، بل بين من يريد استمرار قوانين الغابة، ومنيطمح إلى بناء عالم تحكمه العدالة والكرامة.

فلا يهم من سيفوز في هذه المعركة على مستقبل الإنسان، بقدر ما يهم أن يشهدالعالم نظاماً جديداً يضع الإنسان في مفرمة السياسة، ويظل أسيراً في غابة تحكمهاأنياب الوحوش.

إن بقاء النظام العالمي القديم، الذي يُدار من خلف ستار، لم يعد أمراً مسلماً به.

فهناك من بدأ يدق أبواب التحول بقوة، وهناك من بدأ يكتب الرواية الجديدة، رواية تُغلق بها فصول الغول، وتُعلن بداية انتصار الإنسان المظلوم.

ولن تُكتب هذه الرواية بالحبر فقط، بل بإرادة الشعوب التي قررت أخيراً أن تسحبالبساط من تحت أقدام الوحش، وتعيد صياغة العالم على مقاس كرامتها، لا على مقاسمصالح الوحش والغول.

الجيل الرقمي اليوم ليس نسخة باهتة من الأجيال السابقة؛ إنه جيل يسأل، ويتساءل،ويثور، ويتواصل بلغة لا تفهمها المؤسسات التقليدية.

جيل وُلِد من رحم الإنترنت، وتربى في حضن الصورة، وتعلم من الأزمات أن الحقيقة لاتُؤخذ كما هي، بل تُكتشف، وتُمحَّص، وتُنتَزع من بين ركام الأكاذيب.

هو ذاته الجيل الذي رأى الحقيقة في غزة كما هي، لا كما ترويها نشرات الأخبار، وأدرك أن الدم لا يحتاج إلى ترجمة، وأن المذابح لا تبررها البيانات الرسمية، ولا تخفيها الزوايا الميتة للكاميرات، بل تكشفها عزائم الشعوب التي لن تتراجع حتى تنصف المظلومين.

ورأى الوحشية في استهداف المستشفيات، وفي كلمات السياسيين، وأدرك أن الإنسانية ليست شعاراً يُرفع في المؤتمرات، بل اختباراً يتجلّى في لحظات السقوط والخذلان.

فهل يستفيق الغول قبل فوات الأوان؟

أم ينهار عرشه المذهب تحت وقع خطى الوعي الهادر، ليبدأ عهد جديد تُحرَّر فيهالعقول، ويُرفع فيه صوت الحق فوق كل الأصوات.

التاريخ لا ينتظر أحداً، لكنه دائماً ينحاز لمن يكتب بيده سطور المستقبل، ويملكالشجاعة للدفاع عن الحق والعدل، ويخط طريق نهر نهضة يجري عبر الأجيال القادمة،ليبني عالماً أكثر حرية وإنصافاً، ويزرع بذور الأمل في قلوب من يسعون للتطورالحقيقي.

وحين تسقط الأوهام، لن يجد الغول كهفاً يختبئ فيه، ولا خطاباً يُقنع به الشعوب بأنه لا يزال سيد اللعبة.

عندها فقط تولد حضارة جديدة من بين الركام؛ حضارة لا تُبنى على الخوف بل على الحرية، ولا تستمد قوتها من فوضى الشوارع بل من عدالة السماء، ويشرق فيها نور الحقيقة ليهدي البشرية إلى دروب الكرامة والسلام والإنسانية.

وحينذاك، لن تكون الشعوب مجرد متفرجين على مسرح الحياة، بل كتّاباً حقيقيين لفصولها، سطراً بسطر، وكرامةً بكرامة.

وما نراه من هياجٍ إعلامي، وتطبيلٍ سياسي، واستطلاعاتِ رأي تُفصّل على مقاس المموّلين، ليس إلا ستاراً مسرحياً سميكاً يُخفي خلفه لعبةً أكبر من جميع المرشحين والمحللين والمنظّرين.

وكلما اقتربنا من “صناديق الديمقراطية”، ازداد زيف المشهد، وظهر الغول جلياً وهو يعبث بأصوات الناس كما يعبث الصياد بشبكته، لا يفرّق بين إن علقت سمكةٌ حمراء أو زرقاء، فالجميع سيُصبّ في حوضه في نهاية الأمر.

لقد تعب العالم من المعادلة الأمريكية، حيث يُفرض رمز الهيمنة الدموية على الشعوب بربطة عنق أنيقة، ويُبرَّر استخدام السلاح الفتّاك تحت ذريعة “ردع الأشرار”، وتُستباح كرامة الضعفاء بحجة “مصالحها الاستراتيجية”.

إنها معادلة منحرفة، لا يمكن إصلاحها من الداخل، لأنها ببساطة لم تُصنع لخدمة أحد،بل لابتلاع الجميع.

وإن كانت أمريكا قد أفلحت في تسويق نموذجها عبر السينما، والإعلام، والمنح الدراسية، فإنها فشلت في إخفاء وجهها الحقيقي أمام كاميرات غزة؛ حيث سقطت الأقنعة، وظهر رمز البطش بلا مؤثرات، ولا موسيقى تصويرية، بل بدمٍ حيّ ووجعٍ لا يحتاج إلى ترجمة.

كل مشهد قصير في رفح يُسقط ألف دعاية، وكل صرخة طفل من تحت الأنقاض تُزلزل أعمدة البيت الأبيض، مهما كانت محصنة.

لم يعد ممكناً إقناع جيل يرى المجازر بالبث المباشر بأن هذا الوحش “يحمي القيم”الإنسانية ويحافظ على حياة البشرية؛ فالكاميرات لم تعد تخدع، والدم لا يُجمّل،والضمير العالمي مات مختنقاً تحت ركام غزة.

ولا يمكن تسويق أي خطاب حقوقي من نظام يرى في دماء الأبرياء مجرد هامش فيتقارير “المصالح الاستراتيجية”.

هذا الجيل لن يركع لشعاراتٍ مصنّعة في هوليوود، ولن يقايض كرامته لا بفيزا، ولابمنحة، ولا بصورةٍ مع تمثال حريّتهم أو حديقة بيتهم الأبيض.

هذا الحاجز، حين يسقط، لن تقوم له قائمة، وحين يتراكم الوعي، لا يُهزم، فلا سجون قادرة آنذاك على كتم الأسئلة، ولا خطب رنانة قادرة على إحياء أسطورة ميتة.

والكلمات، حين تُكتب بصدق، تعادل ألف صاروخ، لأنها لا تغيّر قواعد اللعبة فقط، بل تغيّر العقول، وتُعيد ترتيب المعنى في ذاكرة الشعوب المنهكة.

وتلكفي ظنيهي نهاية الغابة: حين يفقد الغول هيبته، وتبدأ الشعوب بالضحكعلى خطاباته، كما تضحك على أراجوز فقد خيوطه، وانقطع عنه التصفيق.

في عالم ينهار فيه الغرب أخلاقياً أمام المذابح في غزة، وينهض فيه الشرق من تحتالركام، لا بد أن نعيد تعريف القوة.

القوة ليست في عدد حاملات الطائرات، ولا في عدد القواعد العسكرية، بل في يقظةونقاء الضمير.

وأمريكا، مهما عظمت ترسانتها، فقد ضيّعت ضميرها في صحاري الدول التي غزتها،وفي المدن العربية التي قصفتها، وفي الشعوب التي دهسها بديمقراطيتها.

إن الزمن لا يعود إلى الوراء، والعالم لم يعد يقبل أن يُحكم بأوهام التاريخ، ولا بسطوة الدولار، بل بات يبحث عن معنى العدالة وسط ركام الشعارات، وعن كرامته في زمن ازدحمت فيه الأقنعة.

وحين نقول “الحكم لله”، فإننا لا نقولها كشعار عاطفي، بل كقاعدة كونية ترفض أن يُستعبد الإنسان باسم قوانين الشوارع الأمريكية، أو يُقهر باسم “الأنظمة العالمية”.

وبذلك تبدأ إرادة الشعوب الحقيقية بالانتصار، وتعود السيادة إلى أهلها، ويُوضَع حدٌّ لزمن الذل والهيمنة، وترسو سفينة الحرية على شواطئ الكرامة والعدل، وتشرق الشمس في كل زاوية من زوايا الأرض، ويُحاسَب الغول، لا في محكمة الجنايات الدولية، بل في ضمير شعوب العالم الذي لا تسقط فيه الجرائم بالتقادم، ولا تُنسى فيه صرخات الأطفال التي مزّقت ليل الإنسانية، ولا ينحني لتمثال، ولا يصفّق لطاغية.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫2 تعليقات

  1. ابداع وتميز ابا سلطان بما يسطره قلمكم الذي يشع نورا ومعرفه تبدد الظلام وتفضح طواغيته والعابثين بكل الكواكب ظلما وطغيانا
    (قوه بلا عدل ولا سلام ) عباره عن عصابات متحالفه تعبث باقدار العالم وتنهب ثرواتهم واحلامهم انه الطغيان حقا ولكل ظالم نهايه في ظل تنامي وعي الشعوب التي تجاهر بالوقوف ضد هذه الغطرسه المقيته بلا اخلاق ولا انسانيه

  2. مقالك جميل وعميق يعبر عن الواقع ياصديقي
    والحيوانات ذاتها شعاراتهم والتاريخ لايرحم
    ولكل شيء نهاية ..
    ونشاهد الثمن يدفع بدم الشعوب، والبساط نراه ينسحب والبنوك الرقمية
    تتنافس ، والفيل والحمار
    في سبات براد وعتمة الغابة
    كتاباتك ممتعة ولله الأمر من قبل ومن بعد …
    مع تحياتي/ حزام ال فاهدهـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى