كُتاب الرأي

الفكر الاستبدادي من الحمداني إلى بشار

محمد الفريدي

الفكر الاستبدادي من الحمداني إلى بشار

استيعاب الديمقراطية في العالم العربي يعد أمرا صعبا للغاية، إذ تسود فيه عقلية الحسم ورفض التنازل والتفاهم، كما عبّر عن ذلك أبي فراس الحمداني بقوله:

نحن قوم لا توسط بيننا، لنا ،
الصدر دون العالمين أو القبر

هذا التباين يعكس التناقض الكبير بين المزاج العربي وقيم الديمقراطية الغربية التي تقوم على الحوار والتفاهم والتنازل المتبادل.

ورغم التحديات التي تواجه سوريا بعد عقود من حكم الأسد وعائلته، يظهر المسيطرون الجدد على العاصمة الأموية نوايا إيجابية من خلال تصريحات تركز على السلام والاحترام المتبادل، مثل “لن نخوض حربا أخرى” و”سنحترم حقوق الأقليات الدينية”، مما يعزز الآمال بعودة بناء البلاد وتعزيز مفاهيم الديمقراطية والاستقرار.

وإعادة بناء سوريا لا يقتصر على الإعمار المادي فقط، بل يتطلب أيضا إعادة تشكيل الهوية الوطنية وترميم النسيج الاجتماعي المتضرر من الحروب والانقسام، فخمسون عام من حكم الأسد وعائلته رسخت قيم الاستبداد، وأضعفت مؤسسات الدولة، وأعاقت أي محاولات للنهوض.

القوى الجديدة في سوريا تسعى لإعادة بناء البلاد رغم التحديات، ومع تناغم الخطاب والممارسات، هناك فرصة لإيجاد حلول حقيقية من خلال تعزيز العمل الوطني الشامل الذي يضمن حقوق الجميع، وإعادة اللاجئين من الدول الغربية والعربية الذين هجروهم طغاة الشام خطوة مهمة نحو بناء المستقبل في سوريا، ولكنها تتطلب ضمانات حقيقية للأمن والكرامة والعدالة، وتعزيز دولة القانون لتحقيق الاستقرار وبناء وطن آمن ومزدهر للجميع.

الربيع العربي قد يتكرر في سوريا أو في غيرها، ولكن التغيير الحقيقي لن يحدث إلا عندما يتحول العقل العربي من فكر عقلية الحمداني والصراع على السلطة إلى عقلية البناء والديمقراطية والتعايش المشترك وبدون هذا التحول، ستظل المنطقة العربية، وليس سوريا فقط تدور في حلقة مفرغة من التغيير الشكلي الذي يعيد إنتاج الاستبداد بوجوه جديدة مرات ومرات.
وبيت ابي فراس الحمداني يعكس أزمة العقل العربي مع الديمقراطية، ويظهر الذهنية المتعالية والأحادية والمتغطرسة التي ترفض المساومة والتنازل عن الصدارة، وهو عكس الديمقراطية التي تعتمد على الحوار والتنازل والاعتراف بحقوق الآخرين، والديمقراطية ليست مجرد آليات انتخابية فحسب، بل ثقافة تقبل الهزيمة والتنازل من أجل المصلحة العامة بينما منطق “الصدر أو القبر” يختزل الصدارة في صراع دائم يعكس عقليتنا العربية التي تمجد الانتصار، وتستهجن التنازل حتى في سبيل بناء الاوطان واحترام حقوق الإنسان.

في الديمقراطيات الحقيقية يكمن الجمال الحقيقي في استيعاب الجميع، وصياغة التوافقات عبر مؤسسات القانون والدستور، لا من خلال منطق القوة والاستبداد أما في مجتمعاتنا العربية التي ما زالت متأثرة بمنطق “الصدر أو القبر”، فإن أي دعوة للتعايش المشترك والمشاركة تُعتبر ضعفا وتفريطا لا يقبل بهما ابدا نتيجة أنظمة استبدادية كرست مفاهيم القوة المطلقة، وقمعت الحوار والديمقراطية، كما فعل حكم الأسد وغيره من تدمير للمؤسسات وأضعاف لثقافة سياسة الديمقراطيات.
فالديمقراطية ليست نظام حكم فقط بل منظومة قيم تتطلب بيئة اجتماعية وثقافية مناسبة، فكيف لمجتمع يعتنق عقيدة “الصدر أو القبر” أن يقبل بالتناوب السلمي على السلطة؟
وكيف لمن يعتبر التنازل خيانة والحوار ضعفا أن يؤسس مؤسسات تستوعب الجميع؟

بيت الحمداني يعكس أزمة ذهنية عربية ترفض التوسط والاعتدال، وهما جوهر الديمقراطية اليوم.
وبناء مجتمعات ديمقراطية حقيقية يتطلب تغيير هذه العقلية وترسيخ قيم الحوار والتعايش، وبدون هذا التحول سيظل الربيع العربي يتكرر بين الأمل وخيبة الأمل، وتبقى الديمقراطية حلم بعيد المنال.

بيت الحمداني يعكس الذهنية الاستبدادية في العالم العربي كحكم بشار الأسد وأشباهه التي ترفض التشارك أو التناوب السلمي على السلطة، وتعتمد على الإقصاء الكامل للخصوم وفرض القبضة الحديدية على الشعوب.
ففي سوريا يجسد حكم الأسد الأب والابن التفكير الذي عبّر عنه الحمداني حيث يعني “الصدر” عندهما الاحتفاظ بالسلطة بأي ثمن حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير الوطن وإبادة عشرات الملايين، والخياران الوحيدان اللذان فرضهما نظامهما العقائدي العقيم هما : إما القبول بالديكتاتورية المطلقة أو الحرب المدمرة التي لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ.

لم يترك بشار الأسد ووالده مجالا للتوسط والاعتدال فقد كانا يعدّان كل معارض لهما خائنا وعميلا.
كما عبّر الحمداني عن تناقض العقلية العربية مع الديمقراطية، وعكسا الأسدان هذا التناقض بتصديهما المستمر لأي شكل من أشكال الحوار ليُبقيان السلطة “صدرا” خاصا بهما وبعائلتهما فقط بينما يتركان الوطن والشعب يغرقان في أتون من الموت والدمار بلا نهاية.

فالحمداني جسّد فكرة التسلط والتناقض مع الديمقراطية في شعره باحترافية تامة وبشار الأسد ووالده طبّقا هذا الفكرة على أرض الواقع بحذافيرها عبر استبدادهما المطلق بالسلطة التي حولت سوريا إلى “قبر كبير” لكل من يرفض الإذعان والخضوع لحزبهما البغيض.
والعلاقة بين الحمداني وبشار الأسد ووالده تكشف بأن المأزق ليس فقط أزمة حكام بل أزمة ثقافة مجتمعية تتناقض مع تطلعات الديمقراطية، وتتمسك بعقلية الاستبداد، فبدون تغيير جذري في الفكر العربي سيظل الصراع مستمرا بين “الصدر” و”القبر”، بلا أفق لبناء أوطان تتسع للجميع وتظل أكذوبة:
بلاد العرب أوطاني
من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن
إلى مصر فتطوان
التي كنا نتغنى بها و بتضامنها ساحةً للموت والدمار، ولا مكان فيها للحرية والتضامن والحوار أبدا، وخيارنا الوحيد فيها هو : اما الفناء أو الاستسلام.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫6 تعليقات

  1. [سيف الدولة أبي فراس الحمداني]
    الاستشهاد بحياة شاعر العربية أبي فراس الحمداني تجعل المتلقي يقف إكباراً وإعجاباً بمكانته الشعرية واعتزازه بعروبته وقصائده في الشجاعة والفخر والمدح والغزل بالرغم من تعرضة لشتى أصناف الإذلال والهوان والأسر ومع هذا تجاوز بشجاعته هذه الإرهاصات ونجح في كسب معاركة مع الدولة البيزنطية.
    ولقد كان الأمثل للكثير من الشعراء المعاصرين وفي مقدمتهم الشاعر الكبير معالي الدكتور غازي القصيبي وفي حضرة الأدب والعلو والمكانة فإننا نستبعد (المذهبية) التي ينتمي إليها أبي فراس الحمداني في مقارنة في إختزاله لتاريخ بلاد الشام – سوريا الحرة؛ ونبوغه كقائد مُحنَّك يرى في شرقه العربي ما لا يراه الآخرون في مآربهم السلطوية والإستبداد والنزعات الشخصية التي سيطرت على تفكيرهم وباتوا أسرى لإملاءات خارجية ضمنت لهم البقاء على كرسي السلطة لأكثر من نصف قرن سفكوا دماء الشعب السوري وأذاقوه مرارة الإذلال والعوز والفقر والعزلة وإبعاده عن حضن أمته العربية في الوقت الذي كان الشعب السوري نموذج للبطولات التي شهد لها التاريخ القديم والمعاصر بينما وحوش السلطة التي كشفت الحقيقة الماثلة بزوال حُكمهم الإستبدادي مهما طال به الزمن.
    لأن حضارة سوريا باقية ما بقي التاريخ وأيادي الشعب السوري البيضاء في تلاقي مع حضارة أمتها العربية والشواهد أكثر من أن تتسع لها هذه المساحة.
    فهنيئا لشعبنا العربي الأبي في سوريا لتعيش حرة وتعيد كرامتها التي سُلبت منها طيلة فترة الإستبداد الوحشي الذي تحدث عنه كتابنا الكبير رئيس التحرير الأستاذ محمد علي الفريدي في مقال يمثل رأي النزاهة والعقلانية ورقي الفكر وشجاعة الطرح.
    ومن وجهة نظر شخصية على الإعلام العربي بشتى أطيافه الداخلية والخارجية المطالب بفتح قنوات تتعلق بحورات الرأي وإبراز آراء الكُتَّاب السعوديين على وجه الخصوص ليس من باب منافسة الآخر من خبراء السياسة والإعلام من الأشقاء العرب والأجانب وإنما إتاحة مساحة أكبر لمواقف المملكة العربية السعودية على لسان هذه النخب من كُتَّاب الرأي ليسمع الأشقاء العرب والعالم أجمع عمَّأ تختزنه المملكة من مواقف تاريخية ليس لمزيد من كسب الضوء وتلميع الذات والأدوار الفكرية وإنما لتسجيل مواقف المملكة للتاريخ حيث شاءت الظروف في أزمنة سابقة أن نتهم بالعمالة وأحيانا بالخيانة وزاد بعضهم بالرجعية من قبل شخصيات سياسية وفكرية تلاشت مع مرور الزمن وبقيت أصواتهم كفقاعات الصابون ولم يكتفوا بذلك بل ذهبت حكوماتهم واستبدادهم إلى الهاوية والماضي السحيق ولا زالت الأمثلة ودماء شعوبهم لم تجف بعد من على وجه أراضي بلدانهم.
    أخيرا آمل يتسع صدر الكاتب الكبير الأستاذ محمد على الفريدي لوجهة نظري هذي مع الإعتذار إن كان هناك شيئا من الشطط غير المقصود.

    1. أخي الكبير سعادة الدكتور محمد حامد الجحدلي
      تحية طيبة وبعد:
      أشكرك جزيل الشكر على تعليقك الثري وطرحك العميق الذي يجسد وعيا فكريا وثقافيا نعتز به، والذي امتزج فيه الأدب بالتاريخ والسياسة في تحليل متزن يستحق الوقوف عنده بإعجاب وإكبار.

      استحضارك لشخصية أبي فراس الحمداني في سياق النقاش حول سوريا الحرة وحضارتها يعكس رؤية واعية، فالأدب الحقيقي مرآة للواقع وجسر يربط بين الأمجاد الماضية والتحديات الحاضرة.
      وكما ذكرت، فإن أبا فراس الحمداني بشعره ومواقفه كان نموذجا للعزة والصمود، حتى في أوقات المحن والأسر، وهو ما يربط بينه وبين نضال الشعب السوري الأبي في مواجهة الاستبداد والقهر، وإدراج بيته الشعري اقتضاه سياق المقال ليس إلا.

      أما ما أشرت إليه حول دور الإعلام العربي وضرورة تسليط الضوء على أقلام الكتاب السعوديين، فهو بالفعل مطلب ملح، فالأقلام الفكرية في المملكة تمتلك من العمق والرؤية ما يمكن أن يقدم للعالم صورة واضحة عن مواقفها النبيلة التي كانت ولا تزال داعما أساسيا لقضايا الأمة العربية والإسلامية.
      ومن المهم أن يجد صوت المملكة مساحة أوسع ليصل إلى الأشقاء العرب والعالم أجمع، خاصة في ظل محاولات البعض على مر العقود الماضية تشويه الحقائق وتزييف المواقف.

      وأما عن النقد الذي ورد في رسالتك سيدي فأنا أراه شهادة تثري الحوار وتضيف له أبعادا أعمق، إذ إن الرأي الناقد البناء وسيلة أساسية لتطوير الأفكار وفتح آفاق جديدة للنقاش.
      لذلك، أقدر جدا صراحتك وطرحك، ولا أرى فيه أي شطط بل هو جزء من الحوار الثقافي الراقي الذي نطمح جميعا إلى استمراره.

      أكرر شكري وتقديري لك سيدي، وأتطلع دائما إلى المزيد من النقاشات الثرية معك، متمنيا لك دوام التوفيق والسداد وتقبل فائق تحياتي واحترامي.
      أبو سلطان

      1. أستاذنا الكبير الكاتب والناقد الصحفي الأستاذ محمد علي الفريدي رئيس تحرير صحيفة آخر أخبار الأرض الإلكترونية تقول العرب: لا عطر بعد عرس لقد عطَّرت مساحة الرأي بعمق أفكارك لأقول لسعادتكم: لا فض فوك.
        فهذه الرؤى التي تنطلق من آرائك في مقالاتك الصحفية إنما هي نموذج للفكر الذي يرتقي لتوجه قيادة المملكة العربية السعودية في رسائلها الإعلامية باللغات الحية للعالم لتكون خط الدفاع الأول لمكانة وكرامة الشعوب العربية وهي رسالة واضحة تؤكد مواقف المملكة التي تنادي بوحدة الصف العربي في الخطاب السياسي أمام دول العالم وهي حقيقة ثابتة أكدتها الممارسة المهنية الإعلامية وهي في الأساس تنبع من ميثاق الشرف الإعلامي السعودي ولتسمح لي سعادة رئيس التحرير أن أشير هنا لأمانة الرسالة الإعلامية التي تحملها على عاتقك ووضعتها استراتيجية عمل واضحة في كتابة مقالات الرأي لشخصكم الكريم ولبقية الأقلام من الكُتَّاب والكاتبات وكانت واضحة المعالم على مستوى الصحافة الإلكترونية في المملكة لك مني عظيم ووافر التقدير.

      2. أستاذنا الكبير الكاتب والناقد الصحفي الأستاذ محمد علي الفريدي رئيس تحرير صحيفة آخر أخبار الأرض الإلكترونية تقول العرب: لا عطر بعد عرس لقد عطَّرت مساحة الرأي بعمق أفكارك لأقول لسعادتكم: لا فض فوك.
        فهذه الرؤى التي تنطلق من آرائك في مقالاتك الصحفية إنما هي نموذج للفكر الذي يرتقي لتوجه قيادة المملكة العربية السعودية في رسائلها الإعلامية باللغات الحية للعالم لتكون خط الدفاع الأول لمكانة وكرامة الشعوب العربية وهي رسالة واضحة تؤكد مواقف المملكة التي تنادي بوحدة الصف العربي في الخطاب السياسي أمام دول العالم وهي حقيقة ثابتة أكدتها الممارسة المهنية الإعلامية وهي في الأساس تنبع من ميثاق الشرف الإعلامي السعودي ولتسمح لي سعادة رئيس التحرير أن أشير هنا لأمانة الرسالة الإعلامية التي تحملها على عاتقك ووضعتها استراتيجية عمل واضحة في كتابة مقالات الرأي لشخصكم الكريم ولبقية الأقلام من الكُتَّاب والكاتبات وكانت واضحة المعالم على مستوى الصحافة الإلكترونية في المملكة لك مني عظيم ووافر التقدير.

  2. لاشك أن هذه البلاد تخضع للظروف السياسية الصعبة وارتبط بها الوضع الاجتماعي والثقافي وجميع الأحوال التي تتعلق بالشعب السوري المغلوب على أمره
    ونسأل الله لهذه البلاد الشقيقة الأمن والأمان والسلام القريب والنماء والعمار بإذن الله

    1. أستاذة نعيمة :
      كلماتك تعكس إحساسا عميقا بمعاناة الشعب السوري، وهو بلا شك شعب صابر تحمل ما لا يُطاق من ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية صعبة.
      ولا شك أن هذه المحن قد ألقت بظلالها على كل جوانب حياتهم.

      نسأل الله أن يعيد الأمن والأمان لسوريا العزيزة، وأن يعيد لها استقرارها وعافيتها، وأن تُبنى من جديد بعزيمة أبنائها المخلصين، فلا شيء أصعب من رؤية وطن عزيز يعيش في محنة، لكن الأمل دائما بالله كبير، وبإذن الله سيعود النماء والازدهار لسوريا الحبيبة قريبا .
      تحياتي
      أبو سلطان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى