كُتاب الرأي

الغيرة والحسد: ظلّ يختبئ بيننا

الغيرة والحسد: ظلّ يختبئ بيننا

باسم سلامه القليطي 

هناك مشاعر لا تصرخ، لكنها تنهش من الداخل بصمت، الغيرة والحسد ليست مجرد كلمات، بل هي شقوق دقيقة في جدار الروح، تبدأان كوميض خاطف في القلب، ثم تتحولان إلى نار صغيرة تلتهم الطمأنينة، وتُربك البصيرة، وتجعل الإنسان يرى ما عند غيره أوضح مما يرى ما بين يديه، وما يزيد الأمر غرابة، أن الحسد لا يسكن دائما قلوب من يملكون أقل، بل قد يستقر في صدور من يملكون الكثير، ثم يغارون من ابتسامة صغيرة، أو نجاح متواضع، أو حتى هدوء شخصي لا يُشترى بمال.
قال الإمام القرطبي رحمه الله:
“الحسد أول ذنب عُصي به الله في السماء، وأول ذنب عُصي به الأرض، فأما في السماء فحسدُ إبليس لآدم، وأما في الأرض فحسدُ قابيل لهابيل”.
الغيرة والحسد لا تنبعان من الظروف المادية فقط، بل من فراغ داخلي، من شعور بالنقص أو القلق أو الإحباط، حين يضعف تقدير الإنسان لنفسه، تبدأ المقارنات المؤلمة مع الآخرين، يرى نجاحهم كمرآة تكشف عجزه، لا كدعوة لأن يلحق بركبهم، وهنا يكمن السر، ليس ما يملك الآخر هو ما يثير الغيرة، بل ما نفتقده نحن، ما نبحث عنه في أعماقنا، وما نرغب في امتلاكه دون وعي.
الحسد ليس على المال وحده، ولا على المناصب أو السيارات، أحيانا يكون على لحظة هدوء، على ابتسامة صادقة، على قدرة شخص ما أن ينام في الليل مرتاحا رغم مشاكل الحياة، حتى أصغر التفاصيل قادرة على إشعال نار صامتة، كلمة تشجيع، رسالة حب، اهتمام بسيط من شخص آخر، نجاح لا يساوي ربع إنجازاته هو نفسه سبب للغضب الداخلي، هنا يدرك الإنسان أن الغيرة والحسد ليسا موضوعا خارجيا، بل انعكاس لما يفتقده في داخله.
الغيرة والحسد مرآة، لكنها مرآة تكشف ضعفنا قبل أن تكشف الآخر. من ينظر إلى الآخرين بغيرة يكتشف داخله فراغا، خوفا من النقص، شعورا بالعجز، أو رغبة جامحة في امتلاك ما لا يملك. وفي أحيان كثيرة، لا يكون الحسد على النجاح الكبير، بل على التفاصيل الصغيرة: طريقة تحدث شخص، لحظة هدوء بين زوجين، أو كلمة طيبة تلقاها إنسان آخر. هذه التفاصيل الصغيرة تتحول في قلب الحاسد إلى نار خفية، تلتهم صفاءه وتجعل حياته كلها سجينة لمقارنات مستمرة، كما لو أن كل لحظة يراقب فيها الآخرين هي فرصة لقياس قيمته بدل أن يصنع حياته الخاصة.
وهنا سر عظمة القلب الكبير: أن يرى في نجاح الآخرين درسا، وفي سعادة الآخرين تذكيرا بالفرح الذي يمكن أن يصل إليه بنفسه. أن يحوّل مرآة الحسد إلى نافذة للتأمل، والتعلم، والامتنان، بدل أن تكون سجنا داخليا لا يُطاق.
الغريب أن الغيرة والحسد، رغم ألمهما، يمكن أن يكونا فرصة للنمو الشخصي. كل شعور بالحسد هو دعوة للنظر إلى الداخل: ما الذي نفتقده؟ ما الذي يجعلنا نرى نجاح الآخرين كتهديد؟ هنا يظهر الاختبار الحقيقي: هل نغلق قلوبنا على الشعور المؤلم، أم نفتحها للوعي، ونتخذ شعور الغيرة كشرارة لتطوير أنفسنا؟
التحول يبدأ حين ندرك أن نجاح الآخرين ليس تهديدا، بل فرصة للتعلم. حين نرى صديقا ينجح في شيء صغير، بدل أن نغار، يمكن أن نسأل: ما الذي يفعله ليصل إلى هذا النجاح؟ وكيف يمكنني أن أستفيد من تجربته لتطوير نفسي؟ بهذا التحول، تتحول النار الصامتة إلى حرارة تدفعنا للأمام، وتصبح الغيرة أداة للوعي، لا عقوبة للنفس.
التحرر يبدأ بالاعتراف بوجود هذه المشاعر، لا بكبتها أو إنكارها. ثم بالامتنان لما بين يديك: للهدوء الذي تملكه، للأسرة التي تحبك، للوقت الذي لديك لتصنع فيه لنفسك حياة أفضل. من يزرع الامتنان في قلبه، يجد أن الحسد يتحول تدريجيا إلى دعاء، والغيرة تتحول إلى رغبة في تطوير الذات بدل أن تكون ألما.
التأمل يساعد هنا: أن تتوقف قليلا، تنظر إلى نفسك، ترى نجاحات الآخرين كما ترى نجاحاتك، وتفهم أن ما أصابهم لا ينقصك شيئا، وأن ما كتبه الله لك لن يأخذه أحد. أن تفرح بفرح غيرك، ليس لأنك ضعيف، بل لأن قلبك كبير بما يكفي ليحتوي السعادة للجميع.
الحسد نار صامتة، والغيرة ظل ثقيل، لكن القلب الكبير يعلّمنا أن نسير بخطى ثابتة. أن نفرح لنجاح الآخرين كما نفرح لنجاحاتنا، أن نحمي هدوءنا الداخلي من أي تهديد، أن نزرع الحب والتسامح بدل المقارنة والحقد، فسلامنا الداخلي أغلى من كل الأموال والمناصب، وأن نختار دائما الامتنان بدل المقارنة، الدعاء بدل الحسد، واليقين بأن ما كُتب لنا لن يأخذه أحد، وما كُتب لغيرنا لن نبلغه لو ركضنا خلفه العمر كله.

كاتب رأي 

باسم القليطي

كاتب رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى