كُتاب الرأي

الغرب يمسك، والصهاينة يذبحون

محمد الفريدي

الغرب يمسك، والصهاينة يذبحون

من يظن أن الكيان الصهيوني هو نتاج عبقرية تيودور هرتزل، أو ثمرة نضال ما يُسمّى بـ”شعب الله المختار” لاستعادة “أرض الميعاد” من المسلمين والعودة إلى فلسطين المحتلة، فهو لم يقرأ التاريخ قراءةً كاملة، ولم يدرك أن هذا المشروع لم يكن يوماً يهودياً خالصاً، بل كان صناعة استعمارية بامتياز؛ تقمّص اليهود دور المنفّذ والوكيل، فيما تولّى الغرب الاستعماري دور المخرج، والمنتج، والمموّل. لذلك، كان هرتزل مجرد واجهة فكرية لمخطط أكبر، استُخدمت فيه أطروحات “الدولة اليهودية” كمدخل سياسي لتمرير مشروع استعماري صُمّم في دهاليز العواصم الغربية، لا في أحياء اليهود المشتتة في أوروبا، ولا في معابدهم التقليدية.

لم يكن وعد بلفور وعدًا لليهود بقدر ما كان صفعة للعرب والفلسطينيين، وطريقة “متحضّرة” للتخلّص من يهود أوروبا، الذين كان يُنظر إليهم آنذاك كعبء ثقيل على الحضارة الغربية، وعنصرًا مزعجًا وغير مرغوب به يجب التخلص منه وإبعاده من أوروبا.

ففي ظل تصاعد موجات العنصرية وأفكار التفوّق العرقي في القرن التاسع عشر، وانتشار مشاعر العداء لليهود في الأوساط المسيحية والعلمانية، بدأت القوى الأوروبية الكبرى تبحث جديًا عن وسيلة للتخلّص من اليهود دون أن تُلطّخ أيديها بالدماء. فتبلور الحل في مشروع تهجيرهم إلى أرض بعيدة، تكون مأوى لهم، وبعيدة عن مركز الحضارة الغربية، مما مهّد الطريق لإطلاق فكرة إقامة دولة لليهود في فلسطين، تحت مظلة الاستعمار البريطاني.

ولم يكن هناك خيار أسهل أو أنسب من تصديرهم إليها، وإقامة كيان دائم لهم هناك، يُخلّص أوروبا منهم، ويُنفّذ أجندتها الاستعمارية في المنطقة.

وبهذا الاختيار لم تكن فلسطين مجرد وجهة لليهود، بل كانت رأس جسر استعماري، اختير بعناية لتكون خنجراً في خاصرة الأمة، وقاعدة متقدمة تخدم مصالح الغرب في تفتيت المنطقة وإبقاء شعوبها تحت السيطرة.

وكانت فلسطين، في نظر القوى الغربية آنذاك، “الأرض المتاحة” لا لأنها “أرض الميعاد”، بل لأنها تقع في قلب شرق أوسط ممزق ومنهك، يخضع بعضه للنفوذ البريطاني، وبعضه الآخر للنفوذ الفرنسي.

وكان يُرى في إقامة كيان يهودي فيها حلاً لتفريغ أوروبا من اليهود والتخلّص منهم، وزراعة كيان موالٍ لهاتين القوتين الاستعماريتين، يكسر وحدة الجغرافيا العربية والإسلامية، ويخدم المصالح الغربية لعقود طويلة. فالمسألة لم تكن يومًا تعاطفًا مع معاناة اليهود، بل استثماراً سياسياً في معاناتهم، لإقامة كيان يُعيد تشكيل المنطقة وفقًا لخرائط القوى الكبرى، لا وفقاً لحقوق الشعوب العربية وتاريخها.

واليهود، بحكم أنهم انتهازيون، التقطوا هذا الخيط بسرعة، رغم أنهم لم يكونوا جميعاً على قلب رجل واحد في ذلك الوقت، وواجهت الصهيونية، باعتبارها أيديولوجيا سياسية، معارضة شرسة من الحاخامات الأرثوذكس، الذين رأوا فيها خروجاً على النصوص التوراتية، إذ إنّ العودة إلى “صهيون” في معتقدهم لا تكون إلا بأمر إلهي، لا بدبابات بريطانية، ولا بوعود ومؤتمرات سياسية.

لكن، كعادة المتطرفين في كل زمان ومكان وديانة، كانوا أكثر جرأة على اقتناص الفرص وتحويلها إلى واقع؛ فتحالف التيار الصهيوني مع المشروع الاستعماري الغربي، وتحول إلى مطيّة للاستعمار لا مجرد ضحية له.

فكُتب التاريخ بأيدٍ مُلطّخة بالدماء، وزُرعت أسطورة “أرض الميعاد” في عقول اليهود، فيما دُفنت الحقيقة تحت ركام الدبابات وصمت القرارات الدولية.

الكيان الصهيوني، الذي أُعلن في عام 1948، شكّل منذ لحظة إعلانه تتويجاً لانتصار مشروعين متقاطعين: مشروع الغرب في التخلّص من اليهود، ومشروع الصهاينة في بناء كيان ديني عنصري على حساب شعبٍ أعزل، لا ذنب له سوى أنه يسكن أرضاً لا بواكي لها.

وإن كان انتصارهم هذا يحمل في داخله بذور انهياره، فالكيان الذي وُلد من رحم التهجير والطرد من أوروبا لم يكن يوماً كياناً طبيعياً، بل مشروعاً مضطرباً، هشاً، محكوماً بهاجس البقاء، لا بالانتماء الحقيقي. فهو كيان تأسس على الكذب، وصار يخشى الحقيقة، واجتمع فيه المتدين والعلماني، الشرقي والغربي، على كراهية الفلسطيني، ولكنهم لم يتفقوا فيما بينهم؛ فلا هوية واحدة تجمعهم، ولا تاريخ واحد يوحّدهم، سوى الخوف: من الداخل، ومن الخارج، ومن التاريخ الذي يلاحقهم.

وهنا، يجب أن نفرّق بين رغبات اليهود ودوافع الغرب؛ فاليهود أرادوا أرضاً يحققون عليها حلمهم، بينما أراد الغرب التخلّص منهم في مكان يمكن التحكم به.

لذا، فإن الدولة التي أُنشئت لم تكن “دولة لليهود” بقدر ما كانت “مخيماً مغلفاً بالسيادة” أقامته أوروبا خارج حدودها.

وكان لا بدّ لهذا “المخيّم المغلّف بالسيادة” أن يُحاط بجدران من الأساطير، ويُروَّج له في الإعلام الغربي كملاذٍ ديمقراطي وحيد في المنطقة، بينما هو في الحقيقة قاعدة متقدّمة لهيمنة استعمارية تُعيد تشكيلها بالدم والنار.

كيانٌ وُلد ليؤدّي وظيفة، لا ليمنح وطناً؛ وظيفةُ الحارس المتقدّم على بوابة المصالح الغربية، ولو على جماجم الأبرياء.

وهذا ما يفسّر بقاءه حتى اليوم مُدجّجاً بالسلاح، ومدعوماً بلا حدود من بريطانيا وأوروبا سابقاً، ومن أوروبا وبريطانيا وأمريكا اليوم، ومحميًّا من أي مساءلة دولية أو محاكمة جنائية؛ فهو ليس مجرد كيان مستقل، بل أداة استراتيجية، ومفتاحٌ سرّي يُستخدم كلّما حاولت دول منطقتنا النهوض.

فوجوده لم يكن يومًا لإقامة وطن، بل لضمان بقاء دول المنطقة رهينة؛ كلّما حاولت التحرّر، قُطِعت يدُها، وكلّما نطقت بالحقيقة، وُصِمت بالتطرّف والإرهاب.

فلسطين اليوم لا تواجه عدواً صهيونياً يزعم أن التاريخ والتلمود والتوراة يمنحونه حق الوجود فيها فحسب، بل تواجه أيضاً تاريخاً غربياً مظلماً مفلساً، مثقلاً بالظلم، وانعدام العدالة، والخيانة، وتواطؤٍ أخلاقي متجذّر، ونظاماً عالمياً أعمى وأصمّ، قرّر منذ البداية أن الشعب الفلسطيني لا يستحق العدالة، ولا حتى أن يُسمع له صوت.

في المشهد الفلسطيني، بالأمس واليوم، لا يكتفي الغرب وأمريكا بدور المتفرّج، بل يؤديان دوراً أكثر خبثاً؛ فهما يُمسكان بالضحية ليفسحا المجال للجلّاد كي يذبحها بسهولة.

وكلما صرخت، مدّوا ستاراً من الضجيج والادعاءات الحقوقية، ليُخفوا نصل الجلّاد في بطنها، ويُقنعوا العالم بأن الدم المسفوك ليس إلا “دفاعاً عن النفس”.

الغرب يُقيّد الفلسطينيين بالحصار، ويكبّلهم بالشروط، ويُخرس أصواتهم في المحافل الدولية والإقليمية، ثم يضع السكين في يد الصهاينة ليُكملوا المهمة.

وكأن الأدوار موزّعة بينهما بدقة: أحدهما يُمسك بالضحية من الخلف دون أن تُرى يداه، والآخر يذبحها من الأمام علانية.

هذه ليست مبالغة، بل وصف دقيق لتحالف دولي يرفع شعار “حقوق الإنسان” و”الدفاع عن النفس”، بينما يشارك عملياً في ذبح الإنسان الفلسطيني: جسداً، وقضية، وذاكرة.

فمن يصنع القاتل، ويموّله، ويمسح دماء الضحية بالكلمات، لا يمكن أن يتحدّث عن السلام والعدل والإنصاف.

وإذا كان العالم الغربي قد اعتاد غضّ الطرف عن جرائم الصهاينة القتلة كنهج استراتيجي لإدارة الصراع في المنطقة، فإن الأرض لا تنسى، والتاريخ لن يرحم، والدم المسفوك لن يجفّ قبل أن تُكتب أسماء القتلة والممولين والداعمين على جدران الخزي والعار إلى الأبد، ويُحاسبوا أمام محاكم التاريخ والضمير الإنساني والسماء، إن كان لا سبيل إلى العدل في محاكم الأرض.

ما يحدث في فلسطين منذ عام 1948 ليس مجرد صراع على الأرض، بل هو تجسيد لفكرة استعمارية خبيثة: كيف يحوّل الجلاد ضحيته إلى جلاد مثله، ويمنحه ثوب المظلوم، ثم يتركه يعيث في الأرض فساداً وقتلاً، بينما يغسل هو يديه من الدماء.

هذه هي قصة فلسطين كاملة، وهذه هي مأساة الفلسطينيين الحقيقية.

وتحرير فلسطين لا يمر فقط عبر البندقية، بل يمر أيضاً من بوابة الوعي، ومن إعادة قراءة القصة من بدايتها، بعيداً عن العناوين المضللة والتواريخ المزورة؛ فالفهم هو أول الطريق، ومن دونه سنظل نحارب الوهم، بينما عدونا يبتسم، لأنه كتب سيناريو هزيمتنا قبل أن نصحو من الصدمة.

المعركة على فلسطين بيننا وبين الغرب واليهود، ليست معركة حدود، بل معركة وجود ووعي وهوية.

فكل شبرٍ سُلب منها لم يُنتزع بقوة السلاح وحده، بل بقوة الرواية، وبضعف قدرتنا على إنتاج رواية مضادّة تحفظ الذاكرة، وتمنع اختراق المفاهيم، وتحمي الأجيال القادمة من الاستسلام لواقعٍ مُفبرك.

فما انتصرت الصهيونية إلا بالدبابات، وبالكاميرات، وبالمناهج، وبالإعلام، وببراعتها في تقمّص دور الضحية.

وهنا السؤال الجوهري: من الذي كتب القصة؟ ومن الذي صمت حتى سُرقت روايته؟

لقد كتب الغرب في البداية تفاصيل الحكاية، وصاغها اليهود الذين يملكون مفاتيح الإعلام والمال والسياسة، بينما ظل الفلسطيني والعربي يتحدثان خارج إطار الصورة، وسُمح لهما فقط بالهمس في هامش النص.

ولهذا، من لا يملك روايته، لن يملك مصيره. وستتحول مقاومته إلى فعلٍ مهمش، سهل التشويه، يُعرض كجريمة على شاشات العالم كل دقيقة، بينما تُعرض جرائم الإحتلال على أنها “دفاع عن النفس”.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

تعليق واحد

  1. ما دامت المصالح الجيوسياسبة مع إسرائيل تمثل قاعدة متقدمة للغرب في منطقة الشرق الأوسط خاصة وأن الدول العربية الغنية بالنفط والموارد الطبيعية تجاورها فمن الطبيعي ألا يتخلى الغرب عن دعم إسرائيل وإطالة أمد الاحتلال لدولة فلسطين.
    هذا الدعم جزء من بنية استعمارية وأيديولوجية عميقة هدفها تغيير موازين القوى لمصلحة الكيان الصهيوني والتوسع أكثر لإقامة إسرائيل الكبرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى