العلاقة البيولوجية بين المطر والفكر

من غير شك يبقى لهطول المطر حكاية مختلفة، قصة عذبة ، هذا أمر مفروغ منه ، وحده الغيث يأخذك إلى عالم موازي من المتعة ويبقى أثره جميلاً، يطبع سقوطه قُبلة على جبين الأوراق ليزيدها جاذبية أما رائحة قطراته تكون أطيب على أغصان الشجر.
تحت زخات المطر كل شيء يكون مختلفًا، أما النسيم الذي يأتي بعده فحدّث عنه الطيور والبلابل وحمائم السلام عندما تسمع أصواتها تجرّ الأمل والتفاؤل ،تشعر معها أن الدنيا في أبهى صورها، تعزف لك أجمل الألحان، حدّث به انعكاس نور الشمس على الأزهار، وانكسار أشعتها الذهبية على وريقات النبات ، حدّث به أصوات الأطفال وهم يتقافزون هنا وهناك فرحين بذاك الهتّان الذي يبلل الأجساد الجافة إلى أن ترتوي ،حدّث عنه الرذاذ المتطاير على أجفانهم وأحداق أعينهم الممتلئة بالبهجة والسرور، حدّث به تلك النفوس التي اغتسلت من الأدران، وذهبت كي تحتفل بجريان الماء على ضفاف الوادي، انصرفت نحو تخيلها العميق في حركة الغيم وهو يعانق قمم الجبال ،تلهو مستمتعة مع الضباب لمّا يهبط فرحًا على الأرض؛ ليغطي الطرقات، فيمنح النفوس شعورًا ساحرًا بأن الحياة آسرة ولاسيما حين تُرى الابتسامة ترتسم على الثغور لتخبرك أنها تشاهد جمال ووسامة الباطن وتعكس أدبيات وفروض الحُسن.
يبقى للمطر أثرًا جميلاً، معه تنشرح النفوس، وتعشب المسطحات وتخضرّ، ويورق النبات، وفوق هذا وذاك تعود الأرض قابلة للعيش وممارسة نشاطها المعهود في إكساب المخلوقات والكائنات لونًا جديدًا من الأمل في الحياة، كل هذا سببه الغيث وهذه آثاره. هذا عن المطر!
ماذا عن الإنسان؟ ماذا عن الكائن المتفرد الذي لو تفكر قليلاً في حياته وجعل انهمار المطر مقياسًا لرؤية الجمال داخل فكره، وأثره معيارًا لاتساع علاقاته، وأسقط نسائمه على آماله وطموحه، وتفرغ لمستقبله حتى يكون سمة بارزة على شخصيته، وسارع لجني محصول أفعاله، ووضع من نواياه نتيجة، وأهدافه حصيلة وأمارة. ماذا سيكون المصير والمغبّة؟ سيكون النجاح حليفه ومنتهى الأمر مكسبه.
ألا يأتي مع المطر الخير! ألا تشرق الشمس مختلفة بعده! أليست الأزهار عنوان الجمال!
بلى هي كل ذلك! ومادامت كذلك! إذن يتعين أن يكون الإنسان خبيرًا بمصلحته فيسقي أرضية الفكر عنده بالعلم ويعطي لنفسه حقها ونصيبها من المعرفة لتكون أكثر خصوبة ويهيئ لها طرائق وأدوات تساعدها في اقتلاع الأشواك الضارة والأفكار المتوحشة المؤثرة على تفكيره ، أعني التخلص كليًا من التوجهات المؤذية ،ثم يقوم بغرس بذور القيم بدلاً عن تلك التوجهات المُضِرّة، ويسكب عليها عناصر التنوع الثقافي لضمان التفاعل المنسجم مع الآخرين، والإبقاء على قاعدة التعددية حتى يضمن التعلم الجيد ويمنح النفس فرصة لفهم من حولها واستيعاب التباينات والاختلافات كي يصبح فيما بعد شخصية اجتماعية نافعة، بالتالي يسهل العمل فيما بعد على تطوير المفاهيم المشتركة بما يحقق المساواة بين المكونات الاجتماعية وبذل الجهود التي تحقق التعايش والتسامح واحترام ثقافة الآخرين وتقديرها.
اعلم رحمك الله أن العقل بستان يزخر بأنواع المحاصيل ولكنه لا يخلو من المتسلقات الضارة، لذا الواجب على الفرد إيلاء العناية التامة لتلك التصورات الجيدة وتسويق ثمار عقله بطريقة هادئة ومفيدة والعمل باستمرار على تنظيف دماغه من الحشائش البشعة.
إن غذاء الأرض الأسمدة وغذاء العقل تحريره من التصلب ونبذ التشدد والتعقيد الذي لا يخدمه في شيء، بل العكس من ذلك يزيده تخلفًا وتأخرًا عن مكانته هذا أمر مهم وضروري، ينبغي أن يعي الشخص ذلك ويدركه جيدًا.
هناك بواعث عديدة تتكلم ومؤشرات تنطق! نعم مؤشرات تنطق فتقول: يوجد هناك علاقة ارتباط متينة في الكيفية التي يسقي المطر بها الأزهار ويبعث فيها الروح وبين تلك الأفكار المزهرة التي ينشرها العقل فتنمو وتكبر . هذا سياق عملي يمنع الاجتهاد ويحمي من السقوط في فخ التنظير.
تلك العلاقة تأخذ شكل التناسب الطردي أكثر من حصولها على نسبة التناسبية العكسية فحينما يسقي المطر الأزهار فإنه لا يحمل معه عقوبة الإعدام إنما يبني حولها جدار مناعي شديد القوة والتحصين يحفظها من التلف حتى تتمكن من مجابهة الآفات والأمراض ، وهذا ينطبق تمامًا على عقل الإنسان عندما يغرق بالمعلومات ! لا في المعلومات! علينا أن نفرق بين الإغراق والغرق ويفرغ نفسه للعلم والمعرفة، والبحث والتأليف ، والكشف عن مواطن القوة واستثمارها بالصورة المأمولة ، هذا بالطبع يكسبه مناعة ضد الضياع والانحراف ، والضعف والركون ، بالتالي يفعّل الآلات الدفاعية بشكل مطلق ضد أي هجمات فكرية يمكن لها أن تعصف باستقراره وهدوئه.
نحن أمام تحدي واسع بين التنظير والتنفيذ والمنتصر فيها سيأخذ نصيبه مكتملاً؛ لذلك ننصح أن يكون الإنسان حريصًا على الربط الجيد بين ما يفرزه عقله من أفكار وبين ما يتحصل عليه من علوم ومعارف تكون نتائجها فهمه للتحولات الاجتماعية والثقافية وإدراكه لما يطرأ من مستجدات على أغلب المواضيع التي تلامس مستقبله الفكري.
علي بن عيضة المالكي
كاتب رأي