كُتاب الرأي
القرشي السفير الشاعر

وداد بخيت الجهني
القرشي السفير الشاعر
أديب مبدع حفر اسمه في لوح الخالدين بأعماله الأدبية التي حجزت مكانها في الخلود، وإرثه الثري الذي أثرى الساحة الأدبية فأضاف لها رونقا لا يُنسى، نقش الحرف فأبدع، عزف الكلمة فسحر، أنه السفير السعودي السابق حسن عبد الله القرشي شاعر، وناثر، ولد في مكة المكرمة عام ١٣٤٤هـ تلقى علومه الأولية في الكتاتيب ثم درس الابتدائي والإعدادي في مدرسة الفلاح والمعهد العلمي السعودي في مكة المكرمة. ثم التحق مبدعنا بقسم التاريخ في جامعة الرياض فحصل على شهادة ليسانس الآداب مع مرتبة الشرف. حمل لقب “سفيرفوق العادة ” و”سفير مكتب” تُوفي رحمه الله عام ١٤٢٥هـ عن عمر يناهز السبعين.
ترقى لعدد من المناصب والمسؤوليات، بدأت مسيرة نجاحه من الرياض حيث عمل في بداية حياته محررًا بديوان الأوراق في وزارة المالية، ثم كاتبًا في المكتب الخاص في الوزارة ثم عمل رئيسًا للمذيعين وبعد أعوام من الصبر والكفاح عمل في وزارة المالية والاقتصاد الوطني، مديرًا لمكتب وكيل الوزارة للشؤون الاقتصادية، فمديرًا عامًا مساعدًا ثم سكرتيرًا ماليًا ثم مساعدًا لمدير المكتب الخاص ثم مديرًا عامًا لمكتب الوزير، وبعد جهد وعطاء مستحق عين سفيرًا للمملكة العربية السعودية في عدة دول منها السودان، وموريتانيا.
وعلى الرغم من مسؤولياته العملية إلا أنه كان صوتًا مؤثرًا حاضرًا، على منابر الشعر، والإعلام، يشدو بعذب الكلمة شعرًا في الميدان الأدبي والمهرجانات الفكرية، والأمسيات الشعرية، ومن المناسبات التي كان لها نصيبًا من شعره ، مناسبة الاحتفال الثاني بجائزة الدولة التقديرية الثانية للأدب عام ١٤٠٤هـ حيث غرد في الأمسية الشعرية التي أقيمت ضمن فعاليات الحفل أنذاك قصيدة بعنوان ( سجين الحياة) يقول فيها :
حسبي..فما أبتغي خلأً يبادلني
بالمين ود بليد الحس ثرثار
أكاد أحسب نفسي حين أصحبه
منقرأ يشكي غربة الدار
كان أديبنا المبدع ذا ثقافة واسعة تراثية المنبع عصرية الأفق، غرس شتلات تكوينه المعرفي والثقافي عبر القراءات المكثفة ابتداءً من انكبابه على كتب التراث التي كان يقتنيها صبيًا على مقاعد الدراسة كالبيان والتبيين والأغاني… ودواوين الشعراء بدءًا من امرؤ القيس حتى العصر الحاضر، حوت ذاكرته الخصبة العديد من القصائد، والمقطوعات الشعرية ، هذا إلى جانب اطلاعه على كافة التجارب الشعرية قديمًا، وحديثًا، فنكب على دواوين الشعراء الجاهليين، ومن تلاهم في صدر الإسلام، نقائض الفرزدق وجرير، وحكم المتنبي وأبوتمام، وجمال صياغة البحتري وزهديات أبو العتاهية، وعشرات الشعراء غيرهم، إلى جانب إيغاله في الشعر المعاصر، وإنتاج الشعراء والأدباء المعاصرين، فقرأ الشوقي وحافظ، والبارودي، و الخوري، وشعراء المهجر، وشعراء الديوان ، وجماعة ابولو، مما صقل موهبته الشعرية وأحدث فيها تحولاً وجعلها رحبة الأفق شاسعة العمق، ساعدته ، أسفاره، وصداقاته وعلاقاته الأجتماعية على نشر شعره في المجلات الأدبية في مصر، وسوريا، والبنان، والعراق، وتونس، فنشر في المقتطف والرسالة، والثقافة، و المجلة… كبرى المجلات جنب إلى جنب مع كبار شعراء العربية آنذاك، مما جعل له مكانة أدبية كبيرة بين أقرانه، يُعد أحد رواد الحركة الأدبية المعاصرة وأول من كتب القصيدة التفعيلية في المملكة، وصف بشاعر الوجدان تلمس في شعره صدقًا حقيقيًّا، ومشاعرًا غير مصطنعة، تشعر بنبضاته بين نقاط الحروف، وترى رجفة قلبه بين الكلمات، وتلحظ لمعة عينيه بين السطور، لم تكن قصائده مجرد حروف مرسومة، بل كانت تحمل داخلها صوتًا شعريًا يعبر عن معاناته ومعاناة أمته بكل شفافية و مصداقية وقد عبر عن انهمامه بذلك بقوله ( أنني شاعر أعيش ما أتيح لي من هموم النفس البشرية كما أنني شاعر أحب ما أستطعت قومي في هذا العالم )
ومن قصائد البدايات لمبدعنا قصيدة بعنوان (ترنيمة قلب) تعبّر عن عمق مشاعره يقول فيها :
رقرقي لي الحب أنفاسا من الشغر النضير
تسكب النشوة والفرحة في قلبي الكبير
وتزف الحلم الغارب دنيا من شعور
هي لحن قدسي اللحن.. ثر بالحبور
ومن تراثه المبكر أبياتاً تحولت فيها اللغة إلى أنغام راقصة يصور فيها لحظة من لحظات الفرح والسعادة في حياته إذ يقول:
وما كان أسعدها لحظة
عبْرتُ الحياة بها للخلودْ
أجدَّت بروحي رحيق المنى
وأحيتْ بقلبي معاني النشيد
ومن أجمل ما نسجه ابن مكة من شعر ما قاله فيها قصيدة بعنوان (مكة) من أبياتها:
تفتق عن راحتيها الصباح
وشعشع في شفتيها القمر!
وأزهت بها الشمس فوق البطاح
وجن بها الليل حلو الصور
ومن حديقته الغزالية نقطف ألوانًا من الغزل الجميل الذي تخفق له القلوب عندما تنصت إلى هذه الأبيات من قصيدة بعنوان “ضياع” يقول فيها:
ولقد عدت.. وبي شوق عنيدُ
لخطاباتك.. تغذوها العهود
هي كانت حزمة الضوء.. تجود
لي بالأحلام فرحى.. وتعيد
كما لم يتردد شاعرنا في لحظات أن يكشف لنا عن خبايا نفسه دون خجل فيجعلنا نلمس جرحه ونشاركه ألمه ومواساته لنفسه؛ وذلك في قصيدته “أتركيني لوحدتي واغترابي” التي يبوح فيها عما بداخله من تألم، وأنين إذ يقول:
أتركيني لوحدتي واغترابي
لعذابي.. إني ألفت عذابي
أتركيني.. ولا تبالي بدمعي
إن فيض الدموع أصفى شرابي
بلغت دواوينه الشعرية حوالي 18 ديوانا من أهمها ديوان “البسمات الملونة” و”بحيرة العطش” وستائر المطر “والأمس الضائع” تنوعت مابين قصيدة التفعيلة، والشعر العمودي. كما كتب مجموعات قصصية “أنات الساقية” التي صدرت
عام ١٣٧٦هـ ومجموعات مسرحية، ومقالية، وله دراسة أدبية بعنوان “فارس بني عبس” كما أنهى كتابًا يحكى فيه عن تجربته الشعرية أسماه “تجربتي الشعرية”
رحم الله أديبنا المبدع، وسفيرنا الفَذَ الذي رحل عن عالمنا وبقي صوته، وشعره راسخًا في الذاكرة، وأعماق الوجدان.
رسالة *
للقارئ حرية مواصلة المشوار مع شعره وإنتاجه الأدبي، من خلال قراءة دواوينه، ومؤلفاته، ومجموعاته القصصية.