كُتاب الرأي
الصفقة التي لا نُرَدّ

الصفقة التي لا نُرَدّ
فيصل الكثيري
منذ أن وُجد الإنسان وهو يعيش معادلة خفية: لا مكسب بلا مقابل، ولا نعمة بلا كلفة. كل ما يبلغه المرء من نجاح أو منزلة أو حتى سكينة، وراءه ثمن دُفع بطريقة ما؛ بجهد مبذول، أو وقت مهدور، أو حرمان صامت. هكذا تسير الحياة كأنها دفتر حسابات مفتوح، لا يسجل فيه ربح إلا وتُقابله فاتورة تدفع عاجلا أو آجلا.
الحياة تشبه سوقا كبرى، لا يخرج منها أحد بسلعة مجانية. كل ما نحمله في أيدينا –نجاحا كان أو صداقة أو حتى لحظة هدوء– وراءه ثمن دفعناه، علمنا أو لم نعلم. قد يكون الثمن وقتا ضاع في السهر، أو دمعة لم يلحظها أحد، أو جهدا استنزفنا ونحن نحلم بما هو أبعد من أعين الناس …انظر إلى الطالب يوم تخرّجه؛ تصفق له القاعة وتُعلّق الأوسمة على صدره. الناس يرون لحظة المجد، لكنهم لا يرون الليالي التي أُطفئت فيها الأنوار وهو يقلب كتبه، ولا فناجين القهوة التي ذابت معها ساعات من السهر. وانظر إلى التاجر الناجح؛ يراه الناس في مجلسه الفسيح، لكنهم ينسون أنه بدأ من دكان صغير، وأنه أحصى كل ريال، وتلقى خسارات كفيلة أن تحبطه. هكذا هي الحياة: تُظهر الثمرة وتُخفي تعب الزرع والسقيا.
حتى القيم لا تأتي بلا مقابل. الصدق قد يحرمك من مجاملة المنافقين، لكنه يهبك طمأنينة النفس. العدل قد يعرّضك لعداوة أصحاب النفوذ، لكنه يكسبك احترامك لذاتك. الحرية قد تُكلّفك عزلة أو غربة، لكنها تمنحك حياة لا تُباع ولا تُشترى. إنها مقايضات: من اختار الرخيص عاش رخيصا، ومن رضي أن يدفع الغالي حاز ما لا يُقدّر بثمن.
الحياة ليست بدعة عصرنا؛ فالتاريخ مملوء بأثمان دُفعت في صمت، وبطولات لم تُشترَ إلا بعرق وتضحيات. هذا ابن الهيثم الذي سُجن في ظلام القلعة، لكنه خرج بعلوم في البصريات لا تزال أساسا للمعرفة. وذلك ابن رشد، الذي ضاق به عصره حتى نُفي وأُحرقت كتبه، غير أنّ فكره بقي منارة يهتدي بها طلاب العقل بعد قرون. وكأن العظماء جميعا اشتركوا في قاعدة واحدة: ما من فكرة عظيمة إلا وكانت فاتورتها غالية، وما من إرث خالد إلا وحُفر بوجع أصحابه قبل أن يُكتب في كتب التاريخ.
وفي زماننا، لم تتغير القاعدة وإن تغيّرت الأدوات. انظر إلى منصات اليوم: نجم رقمي يظن الناس أنه ينال المجد بسهولة، لكنهم لا يرون ضغط العزلة، ولا أعين الحاسدين، ولا قلق اللحظة التي قد تنقلب فيها الجموع عليه. وانظر إلى من يطلب وظيفة مرموقة: قد يحصل على الراتب والمكتب، لكنه يكتشف أن ثمنها ساعات مسروقة من عائلته وصحته. هكذا تعلّمنا الحياة أن الصفقة قائمة دائما، وأن الحكمة في أن نختار ما يستحق أن نُنفِق فيه أعمارنا.
الحياة لا تُعطي مجانا، وما من خطوة يخطوها الإنسان إلا وفي جيبها فاتورة مؤجّلة. حتى الابتسامة قد تكون ثمنها دمعة مكتومة، وكم من عناق صادق اختصر أعواما من الغربة والخذلان. وفي المقابل، من يعيش بلا هدف يظن نفسه مرتاحا، لكنه في الحقيقة يدفع ثمنا أغلى من كل مشقة؛ فراغا داخليا يأكل أيامه ببطء. بينما الذي يحمل رسالة، مهما أثقله الطريق، يذوق حلاوة المعنى التي تعوّضه عن كل تعب. أثمان الحياة لا تُقاس بالمال وحده. قد تدفع صحتك لتصعد منصبا، فتكتشف أن الكرسي لم يملأ فراغ قلبك. وقد تدفع غربتك لتنال حرية فكر، فتدرك أن الغربة في الجغرافيا أهون من غربة النفس. وقد تدفع راحتك لتصون عهدا أو مبدأ، فتخرج مثخنا بالجراح، ومع ذلك ثابت الرأس، رافع الهامة. ولأن كل شيء له ثمن، فالحكمة ليست في التهرب من الدفع، إنما في أن نحسن اختيار ما ندفعه ولأجل ماذا. الإنسان بين خيارين: أن يدفع ثمن البقاء في مكانه، أو يدفع ثمن التقدم نحو ما يريد. كلاهما مكلف، غير أن الثاني وحده يفتح أبوابا أبعد من اللحظة الراهنة.
الحياة معادلة بسيطة؛ من لم يدفع ثمن حلمه دفع ثمن ضياعه، ومن لم يدفع ثمن كرامته دفع ثمن مذلته. والسعيد من وعى مبكرا أن الصفقة الحقيقية ليست فيما نربحه الآن، لكن فيما يبقى بعد أن يطوي الزمان صفحته.