كُتاب الرأي
الشاعر الرسام الذي لا يغيب

الشاعر الرسام الذي لا يغيب
وداد بخيت الجهني
قيثارة تعزف أجمل الألحان، وعبقًا يفوح من بساتين الأدب، غنى لواحة الشعر اندى القصائد، وأعذب القوافي،من يقرأ شعره يُحلق إلى سماء مختلفة ليست زرقاء فحسب بل هي زاهية الألوان والأطياف من يحلق فيها لن يتمنى أن يهبط منها أبدًا.
تجلت في قصائده ديباجة البحتري، وجزالة ابن أبي ربيعة، ورقة أبي فراس، و عبقرية المتنبي، “فكأنما له من اسمه حظ، فهو يرسم بريشته لوحات كبيرة تلمع فيها خطوط الاستعارات ألوانها وظلالها… فالشعر عنده ليس صورًا فارغة وأنما هي صور مليئة بالأفراح، والأحزان” ، ولد في مدينة الشعر والأدب منبج في سوريا عام ١٠ أبريل ١٩١٠م
نشأ في حضن أسرة لها أهتمام شديد بالشعر والأدب َمما جعل الشعر خدينه.
حصل على تعليمه الابتدائي في حلب، ثم أتم درأسته الثانوية في الجامعة الأمريكية في بيروت، ومنها سافرإلى أنجلتراعام ١٩٢٩م ليدرس الكمياء في جامعة مانشستر لكنه سرعان ما انتقل إلى دراسة الأدب الإنكليزي،وفي هذه الفترة عاش قصة حب راقية وجميلة ولكن كان للقدر أحكام فقد فارقت حبيبته الحياة تاركة في قلبه ندبا لم تستطع الأيام بطولها أن تداويها أوحتى تخفف من حدتها مما ترك في نفسه صدمةً نفسية عميقة، فغادر دون أن يكمل دراسته الجامعية، وعاد إلى حلب عام ١٩٣٢م. حيث تولى عدة مناصب كانت البداية إدارة “دار الكتب الوطنية” لعدة سنوات ثم توالت المناصب الدبلوماسية فشغل منصب سفير سوريا في عدة دول من بينها ،الأرجنتين، والنمسا، والولايات الأمريكية، والهند،حضي خلالها بالعديد من الجوائز، والأوسمة من الدول العربية والأجنبية. وكل ذلك لم يحل بينه وبين عالم الشعر،وعالم الأدب والثقافة، فقد استمر في دأبه مع عشقه الدائم للقراءة ينتح من معين التراث، و المعاصرة مايسد نهمه فالقت بأثرها على وجدانه. بالإضافة إلى تأثره بروائع الشعر الإنكليزي أثناء إقامته في بريطانيا مثل أشعار شكسبير، ومليتون، والإمريكي إدغاربو.فكان يقرائه بلغته دون ترجمه لكونه يجيد اللغة الانجليزية إلى جانب إجادته عدة لغات مما أغنى ثقافته ومكنه من الأطلاع على أنتاج أدبي كثير، ومتنوع. ذاكم هوالشاعر الجهير والدبلوماسي البارع شاعر الشام العظيم عمر أبو ريشة شاعر الحب والوجدان، و السياسة الجريئة، تغنى بالوطن وجماله، ولامس قضاياه بوعي، ورؤية نافذة تتدفق كلماته عذوبة، و سلاسة، و أفكاره تنبض إشراقًا ،وعمقًا، يترجح شعره بين الرومانسية، والكلاسيكية الجديدة
التزم بتقليد الشعراء القدامى فسار على نهجهم بالتمسك بالشعر العمودي التقليدي والاعتماد على الصور الشعرية القديمة لكنه ابدع في جعلها صورة مرسومة بكلمة. خاض غمار كثير من الأغراض الشعرية ولم تقتصر أهتماماته على لون أدبي وأحد بل تنوعت مشاربه بين الشعر، و المسرحية تاركا بصمته الفريدة في كل مجال طرقه من مؤلفاته التي أزدهرت بها المكتبات العربية ديوان بعنوان “من عمر أبو ريشة” وديوان بعنوان “مختارات” ومجموعة شعرية بعنوان ” غنيت في مأتمي” وأُخرى “من وحي المرأة” ومسرحيات من أهمها مسرحية “ذي قار” ومسرحية “محكمة الشعراء” توفي – رحمه الله – أثر أصابته بجلطة دماغية في الرياض بالمملكة العربية السعودية في يوم ٢٢ من ذي الحجة عام ١٤١٠ه ونُقل جثمانه في طائرة خاصة إلى حلب ليحتضنه ترابها عن عمر ناهز 80 عاما. وكُتبت على شاهدة قبره الأبيات التالية :
إن يسألوا عني وقد راعهم
إن أبصروا هيكلي الموصدا
لاتقلقي لا تطرقي خشعةً
لا تسمحي للحزن أن يُولدا
قولي لهم سافر قولي لهم :
إن له في كوكبٍ موعدا
ومن مختارات شعره أنتقي هذه المقطوعة الشعرية من قصيدته (عودي) المضمخة بالحب والكبرياء، وترنيم الحزن ، إذ يقول :
قالت مللتكَ؛ اِذهبْ لستُ نادمةً
على فِراقكَ؛ إنَّ الحبَّ ليس لنَا
سقيتكَ المرَّ من كأسي شفيتُ بها
حِقدي عليكَ ومالي عن شَقاكَ غِنى!
ما عاد ليِ بعد هذا اليومِ أُمنيةً
لقد حملتُ إليها النَّعش والكَفَنَا
قالتْ.. وقالتْ.. ولم أهمسْ بمِسمعها
ما ثَارَ من غُصصي الحرَّى وما سَكَنَا
ومن أبداعاته التي تُمتع الروح، وتُناجي الوجدان قوله :
تلك الرؤى من باسمات شبابي
مازلت ألمسها على أهدابي
أيام أطلق للفؤاد عنانه
وأنيخ في ليل السرور ركابي
إن الحياة جميلة إن أهلها
عرفو ا مكان جمالها الخلاب
ومن عذب شعره قصائد مدحه لرسول صل الله عليه وسلم ومنها.
أحمد وثبة الحياة إلى النو ر بحالي جمالها والجلال
أمر الله أن تفيء إليه كل نفس معتوقةمن عقال
ومن أشعاره الوطنية قصيدة بعنوان (أمتي) يقول فيها
أمتي هل لكِ بين الأمم منبرًا للسيف أوللقلم
اتلقاكِ وطرفي مطرق خجلاً من أمسك المنصرم
ويكاد الدمع يهمي عابثا ببقايا كبرياء الألم
ومن أشعاره التي تفجرت فيها اللوعة المريرةالتي جعلته ينفث لهيب الحزن المتعصر قائلاً:
خففي الوطء ياهموم فأني
ما وطئت العشرين إلاّ قريبا
أنتِ اضنيتني بمعية عمري
أنتِ علمتني البكا والنحيبا
ومن روائع بوحه قصيدته “بعض الطيور” ومن أبياتها :
تصغين؟ أيُّ إياب تحلمين به
وأيُّ درب به من خطونا أثرُ
لا تسأليني ما ترجوه أغنيتي
بعض الطيور تُغني وهي تحتضرُ
ومهما أرخينا للقلم العنان وطفنا في شعاب أدبه فلن نوافيه حقه و سيظل اسم (عمر أبو ريشة) رحمةالله تغشاه محفورًا من نور في سجل الأدب العربي ابدي السيرة، دائم الخلود.
همسة
“ما أحوج أجيال اليوم إلى الرجوع إلى هذا الأدب الجميل فبه تغتسل الأذهان، وتصفو القرائح”.