كُتاب الرأي

علماء المناصب و القرنقش finito

محمد الفريدي

بعد انطلاق الثورة الرقمية، اكتشفنا حقيقة تاريخنا المزيف، الذي صاغه حكام مستبدون في حقبتي الدولة الأموية، والعباسية، بالإضافة إلى الدولة العثمانية، ودعموا رواياته المزيفة أقلام أدباء، وكتاب، وعلماء، ودعاة، وشعراء يتملقون الخلفاء والسلاطين ابتغاء ما عندهم من مناصب و (قرنقش) .

في كتابه (مختصر دراسة التاريخ)، يشير المؤرخ جون آرنولد توينبي إلى أن المؤرخين غالبًا ما يتبنون آراء الجماعات التي ينتمون إليها أو يخدمونها، مما يجعلنا جميعًا منحازين لفكر أو دين أو عقيدة معينة، وهذه التحيزات الشخصية والاجتماعية لها تأثير واضح على كتابة التاريخ، وهذه الحقيقة تجعلنا ندرك حجم المسؤولية التي نتحملها تجاه ماضينا وحاضرنا، إذ إنَّ التاريخ الذي كان يكتبه المنتصرون مليء بالتحيزات والانحرافات التي تشوه الحقائق، وتغطي على الوقائع، ونحن وتاريخنا لسنا بمنأى عن هذه التحيزات.

و أحد الأمثلة البارزة على استغلال الدين لتحقيق مكاسب سياسية هو ما حدث من تحريف للنصوص الدينية واختلاق الأحاديث المنسوبة زورًا وبهتانا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما يدل على استغلال التجار للدين لتحقيق مكاسب تجارية وتصريف بضاعتهم الكاسدة، كما فعل أحد تجار البصل الفلسطينيين الذي قال إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(من أكل بصل عكا فقد حج مكة).
ودون على أنه حديث، وهو لزيادة مبيعاته من البصل العكاوي فقط.

وفي كثير من الأحيان، تلفق الأحاديث لتبرير سلوكيات معينة، كما في حالة هذا الفحل المعضل المزواج الذي قال إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(بارك الله في الرجل المشعر، وبارك الله في المرأة الحلساء الملساء).
ولم يتبقَ له إلا أن يكمل الحديث بـ (غراء فرعاء مصقول عوارضها، تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل) .

هذه الأمثلة وغيرها تظهر كيف كان يتم استغلال الدين كوسيلة لتبرير الفساد الأخلاقي والسياسي والاقتصادي في تلك العصور التي ذكرناها، وكيف انتشرت الأكاذيب، والفتاوى الباطلة بشكل متعمد، وكيف ازداد عدد المنافقين والمدلسين الذين روجوا للأحاديث المكذوبة، والوعاظ الكذبة، والكتاب والأدباء والشعراء الذين يتسابقون للحصول على رضا الحكام، ويتقاتلون على موائدهم، ويبيعون ضمائرهم من أجل لقمة عيشهم، ويقومون بتشويه الحقائق، وتدوين الروايات المغلوطة التي تخدم مصالح حكامهم، وتعزز من سلطتهم ونفوذهم.

ومع ذلك، لم يتوقف استغلالهم للدين عند حد تحريف النصوص الدينية والتاريخية، بل امتد ليشمل كافة مناحي الحياة، وفسروا النصوص الدينية بطريقة تتماشى مع رغبات الحكام، ومصالحهم الشخصية، واستخدموا الدين كأداة لتبرير الغزوات والاعتداءات على الشعوب الأخرى، وإصدار الفتاوى التي تشرعن العبودية، والسرقات، والاختطاف، والظلم، وحرفوا مفهوم الجهاد من أجل عينيهم بفتاو كثيرة، ليتحول بعدها بقدرة قادر من وسيلة للدفاع عن النفس وحماية المستضعفين إلى ذريعة للاستيلاء على أراضي الدول المجاورة وثرواتها، وسبي نسائها، والحصول على أكبر قدر من الغنائم.

وتجاوز استغلالهم للدين حدود المعقول ليصل إلى إسكات الأصوات المعارضة التي كانت تسعى لتصحيح هذه الانحرافات في تلك العصور، وتم اللجوء إلى الدين، عبر الأحاديث المكذوبة والتفسيرات المغلوطة، لتبرير سجن العلماء، والشعراء، والأدباء الذين رفضوا الانقياد للأجندات السياسية المختلفة، وتعرضوا للسجن، والمضايقات، والنفي، والتعذيب، وحتى القتل في بعض الحالات.

ومع مرور الزمن، بدأت هذه الأكاذيب تنكشف، وتظهر الحقائق بوضوح، وكان لعراب رؤيتنا، ووسائل التواصل الاجتماعي دور محوري في فضح هذه الأكاذيب، وتحولنا بقوة عزيمته فوق قمة جبال طويق من شعب (مدرعم) الى منصات مفتوحة للنقاش، وتبادل الأفكار، ونشرنا رغم انف الظلام الوعي على العلن، وفككنا الروايات المزيفة التي كانت تعتبر لقرون مضت حقائق لا يُقبل المساس بها .

لقد ساعدتنا وسائل التواصل الاجتماعي على تفكيك الروايات المزيفة، وفضح الأكاذيب التي روج لها الحكام المستبدون والأقلام المأجورة، ونحن اليوم نعيش في عصر أصبح فيه من السهل الوصول إلى المعلومات بسهولة، والتحقق من الحقائق، وتصحيح الأخطاء التي ارتكبت في الماضي، ففي نهاية المطاف، لن يصلح حال الأمة إلا إذا كانت قائمة على حقائق سليمة، وتاريخ نقي خال من الأكاذيب والانحرافات.

إن التحولات التي شهدناها اليوم جعلت من الصعب على المتلاعبين بالتاريخ والدين أن يستمروا في ترويج أكاذيبهم دون أن يتعرضوا للمساءلة، وأصبح من الممكن الآن للجماهير أن تطلع على المصادر المختلفة، وتقارن بين الروايات المتعددة، وتصل إلى استنتاجات مبنية على أدلة وحقائق، وليس على روايات مفبركة أو مزورة.

وعلينا في الوقت نفسه أن ندرك أن كشف الحقائق وحده لا يكفي، بل يجب أن نعمل على ترسيخ الوعي في مجتمعاتنا، وتعليم أجيالنا القادمة أهمية البحث عن الحقيقة وعدم التسليم بما يُقدَّم لهم دون تمحيص أو نقد، وهي مهمة ليست سهلة، ولكنها ضرورية لضمان أن يكون تاريخنا وديننا نابعاً من قيمنا الحقيقية، وليس وسيلة لتحقيق مصالح آنية.

إن الثورة الرقمية لم تكن مجرد ثورة في وسائل الاتصال، بل كانت ثورة في الوعي والمعرفة ، مكنتنا من كشف الزيف والباطل، وأعطتنا الأدوات التي نحتاج إليها لبناء مستقبلنا الذي يعتمد على قدرتنا والاستفادة من أدواته، واستخدامها لتحقيق التغيير الإيجابي الذي ننشده.

فكل فرد منا ينبغي ان يكون واعيا بدوره في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا ، وتصحيح المفاهيم واستعادة الحقائق ليست مهمة العلماء والمفكرين وحدهم، بل هي مسؤولية جماعية يجب أن نتحملها جميعا ، وعلينا ان نتعاون من أجل بناء مجتمع يقوم على الحقائق والقيم الأصيلة، بعيدا عن التزوير والتزييف الذي عانينا منه زمنا طويلا.

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫10 تعليقات

  1. صحيح ما طرحته أستاذ محمد
    وأحب أن أضيف الكذب والتدليس يكون في كل مكان وزمان ويكون بوسائل الإعلام المطبوعة والرقميّة
    فالواجب تحري الدقة في القراءة والاختيار للوصول لحقائق والوقوف على القيم الأصيلة كما تفضلت
    تحباتي وتقديري لقلمك المميز وفكرك الراقي🌹

    1. أستاذة نعيمة البدراني..
      شكرا جزيلا على مداخلتكم القيمة، بالفعل، الكذب والتدليس لا يقتصران على زمان أو مكان معينين، بل يمكن أن نجدهما في كل وسيلة إعلامية سواء كانت مطبوعة أو رقمية، لذا فإن تحري الدقة في القراءة واختيار المصادر الموثوقة هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحقائق والتمسك بالقيم الأصيلة.
      أقدر جدا كلماتكم الطيبة، ويسعدني أن تجد مقالاتي استحسانا لديكم ، ﻭ تقبلوا فائق تحياتي واحترامي.
      اخوكم / محمد الفريدي

  2. يقال أن التاريخ يكتبه المنتصرون وهذا قد يكون صحيحاً لحدٍ ما ولكن قد يأتي منتصرون آخرون في زمن لاحق ويتناولون ما كتبه من سبقهم بالتحريف او يمحون ذلك التاريخ ويكتبون ما يحلو لهم ..
    إذاً التاريخ يكتب حسب المصالح والمتغيرات السياسية لكل زمان ..
    ومع التطور الهائل الذي وصلنا له إكتشفنا الكثير والكثير من المغالطات والتزييف الحقيقي في تاريخنا فما بالك بمن سبقنا ..
    دائماً ما يتحفنا الكاتب ابا سلطان بمواضيعه الشيقة والتي تشد القارئ من حيث لايدري ..
    شكرا لك ابا سلطان ولقلمك المبدع دائماً ..
    تقبل تحياتي ،،

    1. سعادة الاخ المستشار أبو عبدالله
      تحية طيبة وبعد:
      نعم، القول بأن التاريخ يكتبه المنتصرون يعكس جزءا من الحقيقة، حيث غالبا ما يُعيد المنتصرون كتابة التاريخ بما يتوافق مع مصالحهم وأهدافهم، وفي كثير من الأحيان، يأتي من بعدهم من يغير أو يُعدّل الروايات وفقا للمتغيرات السياسية والظروف الجديدة.
      الآن و لله الحمد و المنة مع تطور المعرفة والتقنيات، أصبح لدينا القدرة على كشف العديد من المغالطات والتزييف في التاريخ، مما يتيح لنا فهما أعمق وأكثر دقة لما حدث بالفعل ، وكما تفضلتم، فإن الكتابة والتوثيق تساهم في كشف الحقائق وتقديم رؤية أوضح، و إن كنت مازلت أومن بأن في مهجع التاريخ القديم دم وجنابة.
      اخيرا شكرا لكم على كلماتكم الطيبة ، و يسعدني أن تجدوا في مواضيعي ما يجذب اهتمامكم ويحفزكم على التفكير ، و تقبلوا خالص تحياتي و احترامي.
      محمد الفريدي

  3. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    صبحكم الله تعالى بالخيرات والبركات
    والمسرات والفل والكاذي والياسمين
    حياكم الله تعالى حبيبنا الغالي
    وكاتبنا المبدع والموهوب
    الأستاذ القدير محمد الفريدي

    ما شاء الله تبارك الله
    مقال جميل من الوعي والفهم الثقيل والعميق
    يكفينا أن نتفق مع المقال على النتيجة التي وصل إليها
    وهي :
    (فكل فرد منا ينبغي ان يكون واعيا بدوره في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا ، إن تصحيح المفاهيم واستعادة الحقائق ليست مهمة العلماء والمفكرين وحدهم، بل هي مسؤولية جماعية يجب أن نتحملها جميعًا ، وعلينا ان نتعاون من أجل بناء مجتمع يقوم على الحقائق والقيم الأصيلة، بعيدًا عن التزوير والتزييف الذي عانينا منه زمناً طويلًا).

    شكرا شكرا لكم أبا سلطان
    وإلى الأمام دائما وابدا…

    1. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
      أستاذنا الكريم الدكتور سالم بن رزيق حفظه الله
      صباحكم نور وسعادة، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.
      أشكركم أستاذي العزيز على كلماتكم الطيبة ودعمكم اللامحدود ، و يسعدني حقيقة أن يكون المقال قد حاز على إعجابكم ، وأنه عكس بالفعل الوعي والفهم العميق الذي أهدف إلى تقديمه.
      نعم يا سيدي، تصحيح المفاهيم واستعادة الحقائق مسؤولية جماعية، ويجب أن نعمل جميعا على بناء مجتمع قائم على القيم الأصيلة والحقائق التاريخية الصحيحة.
      شكرا جزيلا لتعليقكم استاذنا، و تقبل فائق تحياتي وتقديري.
      اخوكم
      أبو سلطان

  4. ماشاء الله تبارك مواضيعك أستاذ محمد دائما تجذبني للقراءة ، أجد فيها جمال الاسلوب الذي يشد القارئ فعلا لقراءة المزيد سلمت وسلم قلمك👏🏻

    1. اختي الكريمة الأستاذة سلامة المالكي حفظها الله .
      شكرا جزيلا لك أخيّه على تعليقاتك الرقيقة، و يسعدني أن مواضيعي تثير اهتمامك وتشدك للقراءة، و تقديرك لأسلوبي يشجعني على الاستمرار في تقديم محتوى يجذب القارئ، وتقبلي فائق تحياتي.
      أخوكم
      أبو سلطان

    1. الأستاذة الفاضلة ابتسام الجبرين
      شكرًا جزيلًا على كلماتك الطيبة، ويسعدني أن يكون لمواضيعي تأثير إيجابي، وأنها تجذب انتباه القارئ، كما اننا نعتبر تعليقاتك و مداخلاتك حافز كبير لنا لقديم الأفضل ، تحياتي.
      أخوكم
      أيو سلطان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى