كُتاب الرأي
السردية فكرة مسمومة تتنكر للقيم وتُدمر المجتمعات

السردية فكرة مسمومة تتنكر للقيم وتُدمر المجتمعات
في بيئة فكرية مضطربة، تزاحمت فيها المفاهيم وتداخلت فيها المعايير، برزت سرديات فكرية تدّعي التقدم والانعتاق، لكنها في جوهرها تحمل بذور الانهيار، سرديات تروّج للحرية المطلقة، والنسبية القيمية، وتفكك القوانين الكبرى التي شكّلت عبر التاريخ ركائز الوعي الإنساني.
هذه ليست أطروحات قابلة للنقاش فحسب، بل سرديات مدانة، تستوجب التجريم الفكري والأخلاقي لما تُنتجه من تفكك ثقافي واجتماعي، وانحدار في سلم المعنى وانزلاق في الكرامة الإنسانية.
ولأننا في عالم مُثقل بالشعارات، ظهرت سرديات حديثة تدّعي التحرر والوعي، لكنها تحمل في جوهرها إنكارًا عميقًا لمعنى الإنسان.
هذه السردية تتنكر لأصل الإنسان، وهي ليست اختلافًا فكريًا، بل اختراقًا لمنظومة القيم، وانقلابًا على العقل، ومحاولة لتجريد الإنسان من كرامته الأخلاقية، ثم بيعه وهمًا مُغلّفًا بالحرية.
نحن لا نُناقشها، بل نُدينها، ونُجرّمها أخلاقيًا، لأنها ليست فكرة قابلة للتداول، بل أداة للهدم الذاتي باسم التقدّم كونها ترى أن كل القيم نسبية، ولا يوجد صوابً مطلق ولا خطأ ثابت، وأن الإنسان حرّ بشكل دائم في تقرير مصيره دون أن يستند على قانون أو نظام يحكمه ثم أنها فوق تلك الآراء ترى أن الدين والأسرة والأخلاق كلها منتجات تاريخية قابلة للإلغاء وأن المشاعر هي الحقيقة الوحيدة.
السردية في واقعها كما أسلفت تلغي الدين والأسرة والأخلاق وتسوق للمشاعر وترى فيها الحقيقة غير المشروطة، تبدو ظاهريًّا أنها عبارات جذابة يستعملها أصحابها، لكنّها قنابل موقوتة تُفجّر المجتمعات من الداخل ولها مبادئ.
هذه المبادئ تُقدَّم تحت مظلة “الوعي الجديد” و”تفكيك الموروث”، لكنها في حقيقتها تمثل انقلابًا على الإنسان ذاته، وعلى مقومات وجوده الأخلاقي والثقافي.
إن الدعوة إلى الحرية دون مسؤولية، وإثارة الفوضى الأخلاقية ومحاولة سحق الهوية تحول الإنسان من كائن عاقل إلى أسير تحت نزواته ويتصرف بلا ضوابط ولا يحاسب نفسه بل ينكر حتى شعوره بالذنب بوصفه قيدًا قديمًا أعني بذلك “الشعور بالذنب” ومهاجمة كل شيء مقدس باسم النقد لتدمير أعمدة المعنى البشري الهوية والدين والأخلاق والأسرة واللغة والوطن.
إذن ينبغي العمل على التحليل الجيد ونزع أقنعة الفكرة لأن الهدف الحقيقي منها ليس الفهم، بل التجريد من المعنى، وتحويل الإنسان إلى جسدٍ ومزاجٍ فقط، بلا جذور، ولا انتماء، ولا مسؤولية. وهي بذلك تتضح للإنسان الحصيف أنها تناقض داخلي من جهة تُدين كل أنظمة القيم لكنها في الوقت ذاته تطلب لنفسها حصانة أخلاقية وفكرية.
هي تمثل ارتباكًا وجوديًّا تحاول فيه إخفاء الحقيقة ولكنها تطلق هذا كحقيقة دائمة فتنهار أمام أول اختبار منطقي لتحدث بعدها نتائج كارثية في المجتمعات التي اعتنقت هذه السردية أو انشدّت معها أو انخدعت بها لنشهد بعدها تفكك الأسرة، وأنّ العلاقة الزوجية لم تعد عهدًا، بل “عقدًا قابلاً للفسخ والخلع والطلاق حسب الأهواء بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الاكتئاب والانتحار؛ لأنه لا يوجد معنى أعلى يمنح الإنسان الصبر على الألم، فضلاً عن تفشي الإباحية والعنف الرمزي ، حين تغيب القيم، يتحول كل شيء إلى سلعة، حتى الجسد، ويصبح لكل فرد دِينًًا صغيرًا يُفتي لنفسه ويشرّع لرغباته كيفما يريد.
إن السردية نبتة مسمومة نشأت في تربة ملوثة، لم تأت من صلب العقل النزيه إنما هي ثمرة فلسفات مادية وجودية أنكرت الروح وهي تجارب مجتمعية فاشلة تمردت فيها نخب معزولة عن الشعوب وبحثت عن تحطيم كل شيء فيه دون أن يكون هناك بديلاً، بالطبع وُلدت هذه الفكرة عندهم من الألم الذي قاسمهم أيامهم لكنها للأسف صارت مرضًا بحد ذاته ولأنها لا تُصلِح شيئًا، وتفسد كل شيء وتنتج أفرادًا بهم هشاشة فكرية ومجتمعات بلا أعمدة وتغتال المعنى وتسوّق للعدمية وتقنع الضحية بأنها حرة، صار من الواجب تفكيكها حتى الرماد ! وتدميرها حتى الفناء، فاليوم تُستخدم سياسيًّا لتفكيك الشعوب من الداخل.
ولأنه يتعين علينا العمل باجتهاد ووعي تام في سبيل تجنيب مجتمعنا ويلاتها، فإنه من الآكد علينا تحليل واقعها وكشف هويتها للناس وتعريتها بما أنها ليست بريئة، بل أداة ملوثة بيد من لا يريد لهذا العالم أن يستقيم.
آخر الكلام:
إن مسؤوليتنا الثقافية والفكرية تتجاوز النقاش المفتوح إلى المواجهة الأخلاقية الحاسمة، والوقوف في وجه هذه الفكرة أصبح في حكم الواجب، ولا مجال في أن نعطي مكانًا أو مساحة للرأي فيه
لأنه ببساطة نحن لا نرد على هذه السردية، بل نحاكمها، كونها ليست فكرة بين أفكار؛ على العكس من ذلك تعد وباءً ثقافيًّا يستهدف العقل والضمير عن اقتناع تام! هي لا تستحق أن تُناقش، بل أن تُزال، لا نريد لها تفنيدًا، بل دفنًا أخلاقيًا بصورة نهائية نظرًا لكونها بالفعل فكرة خطيرة وأنه لا يُمكن لمجتمع يريد النهوض أن يسمح بتمدد سردية تتبرر انهيار المجتمع وتُزيّف الحرية وتسمح بالفوضى وتشوه القيم وتحرّف صورتها.
نحن لا نختلف مع هذه السردية، إنما نُدينها، لأنها لا تمثل رأيًا آخر، بل انحرافًا مُمنهجًا في فهم الإنسان ومكانته ودوره.
إن الفكر الذي يُنكر الإنسان، ويجيز الخراب، ويُزيف الحرية، هو فكرٌ تسقط عنه أهلية أن يكون مشروعًا معرفيًا أو ثقافيًا صالحًا.