السامية ليست حكراً على اليهود

محمد الفريدي
السامية ليست حكراً على اليهود
شيء يُجسّد التناقض الإنساني كما يُجسّده هذا المشهد العبثي: شعبٌ يزعم أنه ضحية للكراهية السامية، بينما يمارس القتل اليومي ضد إخوةٍ له في الدم، واللغة، والجغرافيا، والتاريخ، باسم التفوّق والشعب المختار.
يتحدث اليهود عن “السامية” كما لو أنها هوية حصرية لهم، لا يشاركهم فيها أحد، متناسين أن العرب — وهم ضحاياهم منذ أكثر من سبعة عقود — ينتمون إلى العرق السامي ذاته.
هم الشعوب التي انحدرت لغاتهم من أصلٍ مشترك نشأ في الجزيرة العربية وبلاد الرافدين والشام، ويشمل ذلك: العرب، والآراميين، والكنعانيين، والعبريين.
لكن اليهود اليوم اختطفوا هذا الاسم، واحتكروه لأنفسهم، ثم أقاموا فوقه درعاً أخلاقياً مصطنعاً؛ فمن يجرؤ على انتقادهم، أو يفضح ممارساتهم، أو يدين جرائمهم، يُتّهم فوراً بـ”معاداة السامية”، وكأن الدم العربي ليس سامياً، وكأن لغتنا ليست سامية، وكأننا وُجدنا فقط لنكون وقودًا لمظلوميتهم المقدسة التي لا يُسمح لأحدٍ بمساءلتها.
الساميون الحقيقيون لا يذبحون الساميين، ولا يقصفون بيوتهم، ولا يحاصرون أطفالهم، ولا يحوّلون تاريخهم ومدنهم إلى رماد.
لكن إسرائيل، الكيان الذي يدّعي تمثيل اليهودية والإنسانية والشعب المختار، تمارس القتل بدمٍ بارد يومياً ضد إخوةٍ لها في السامية، واللغة، والنسب.
أليس إبراهيم، أبو الأنبياء، جدّنا وجدّهم؟ أليست العربية والعبرية لغتين شقيقتين؟
فبأيّ وجهٍ تُراق الدماء، وتُستحلّ الأجساد، ويُبرَّر القتل باسم “السامية”؟
إن ما يفعله اليهود المعاصرون اليوم في غزة ليس قتلاً فحسب، بل إعادة صياغة للهوية السامية التي لا يملكونها وحدهم، بأكاذيب سياسية مدعومة من آلة إعلامية دولية.
لقد اختطفوها، وحوّلوا مفهومها من تصنيفٍ لغوي وثقافي، إلى درعٍ سياسي يحمي الاحتلال، ويبرّر الإبادة، ويُصادر صوت كلّ حرٍّ شريف يرفض ما يقومون به من مجازر لا تُحصى ولا تُعدّ.
وإذا أردنا أن نفهم حجم التزوير التاريخي في الخطاب اليهودي، فعلينا أن نعيد قراءة التاريخ لا بعين السياسة، بل بعدسة الحقيقة.
فعبر أكثر من ألف عام، لم يعرف اليهود استقراراً وأماناً كما عرفوه تحت رايات المسلمين، لا في الأندلس، ولا في بغداد، ولا في القاهرة وفاس.
ففي حين كانت أوروبا تمارس ضدهم التطهير العرقي، والطرد، والحرق، ومحاكم التفتيش، كان المسلمون يمنحونهم موطناً، ومكانة، ومشاركة في الحضارة، باعتبارهم جزءاً من نسيجهم.
في الأندلس، تلك الجوهرة الإسلامية التي أنارت الغرب في عصور ظلامه، لم يكن اليهود مجرد أقلية مضطهدة، بل كانوا فاعلين في الحراك العلمي والثقافي.
في كنف الخلافة الأموية هناك، عاشوا “العصر الذهبي” كما يسميه مؤرخو اليهود أنفسهم، حيث برز منهم الفلاسفة، والأطباء، والمترجمون، وتقلّد بعضهم مناصب عليا في بلاط الخلفاء، وكانوا جسوراً حقيقية بين الشرق الإسلامي والغرب اللاتيني.
ولم يكن هذا الاستثناء محصوراً بالأندلس، بل انسحب على عموم العالم الإسلامي.
من بغداد العباسية إلى فاس المغربية، ومن دمشق إلى القاهرة، تمتع اليهود بمكانة “أهل الذمة”، وهو وضع قانوني يكفل لهم حرية العقيدة، وممارسة شعائرهم، ويمنحهم الحماية.
كانت العلاقة متساوية تماماً، وإنسانية وعادلة، ولم تُستخدم ضدهم الإبادة الجماعية، ولا الطرد، ولا التنكيل الجماعي الذي يمارسونه اليوم في فلسطين المحتلة وغزة.
وفي فترات كثيرة، لم يكتفِ المسلمون بمنحهم الأمان، بل فسحوا لهم المجال ليكونوا شركاء في بناء الحضارة، فترجم اليهود للعرب الفلسفة اليونانية، وأسهموا في الطب، والرياضيات، والفلك، وكانت لهم مدارس ومعابد تُحترم في قلب العواصم الإسلامية.
وحين طُردوا من الأندلس على يد محاكم التفتيش الكاثوليكية، لم يجدوا ملاذاً أكثر أمناً من مدن المسلمين.
ولم يسجّل التاريخ الإسلامي — برغم امتداده — مذبحة واحدة بحقهم، ولا حملة تطهير عرقي كما فعلت أوروبا في إنجلترا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا.
هذا هو تاريخُ الحقائق، لا يُمحى ولا يُزَيَّف، ويُثبت أن الحضارة الحقيقية تُبنى على التسامح والإنسانية، لا على القتل والطرد والتعصب.
إن إعادة قراءة العلاقة بين المسلمين واليهود في التاريخ الإسلامي ليست للتنشيط الفكري فحسب، بل هي درس أخلاقي:
كيف استطاعت حضارة تدين بعقيدة التوحيد أن تحتضن التنوع، وتمنح الأقليات غير المسلمة مساحةً للعيش والإنجاز؟
وكيف فشل الغرب، رغم شعاراته، في حماية اليهود من التمييز، والعنصرية، والإبادة في دوله حتى وقتٍ قريب؟
لقد علّمتنا حضارتنا العربية أن العدالة لا تحتاج إلى تشابه ديني، وأن التعايش لا يعني الذوبان، وأن الاختلاف لا يمنع الاحترام.
إننا نكتب هنا لا لنطلب اعترافاً من قاتل، ولا لنبرّر وجودنا، بل لنقول للتاريخ:
نحن الساميون الذين لم نغتصب وطناً، ولم نقتل أطفالاً، ولم نحاصر بشراً في سجنٍ مفتوح اسمه غزة.
نحن الذين لا نريد صكوك غفران من العالم، ولا حماية، بل نطالب هذا العالم أن يخلع نظارات الخداع التي يرتديها، وأن يرى أن “معاداة السامية” الحقيقية هي أن يُقتل الساميون العرب باسم السامية اليهودية.
وحتى يُدرك العالم هذه الحقيقة، علينا أن نرفع أصواتنا بكل صدق وشجاعة، ونرفض أن تستخدم إسرائيل كلمة “سامية” كغطاء لجرائمها التي تُرتكب ضد إخوةٍ لنا في الدم، والدين، واللغة، والتاريخ.
فأيُّ عبثٍ أكبر من أن تُقصف الضحية باسم العِرق الذي تنتمي إليه؟
وأيُّ كذبٍ أبشع من أن يُمنح القاتل حصانة تاريخية لأنه “سامٍ”، بينما تُسفك دماء إخوانه “الساميين” على مرأى ومسمع من هذا العالم؟
وهل هناك نفاقٌ أوضح من عالمٍ يصمّ آذانه عن صرخات الأطفال، ويُصنّف الحقيقة على مقاس المصالح، ويُدين الكلمة إن خرجت من فم الضحية، ويُبرّئ الرصاصة التي تُطلق من بندقية المحتل؟
لم تكن السامية يومًا عِرقاً نقياً، ولا ديناً مختاراً، بل هي وصفٌ لغوي حضاري يجمع شعوباً متعددة.
لكن المشروع الصهيوني، كما حرّف كل شيء، حوّلها إلى أداة استعلاء، وإلى جدارٍ يُمنع من تجاوزه إلا بشروط القوة، والرضوخ، والإذعان الكامل، والتخلي عن الكرامة.
ولذلك نقولها بوضوح:
لسنا معادين للسامية، بل نحن ساميون أباً عن جد، قُتلنا بأيدي ساميين متطرفين من اليهود، اختاروا السلاح بدل الأخوّة، والتفوّق والاستعلاء بدل التعايش السلمي، والاحتلال بدل السلام.
و حين يتحدث الإعلام الغربي عن “العداء للسامية”، يتبادر إلى الذهن أن أيّ انتقادٍ لليهود، حتى لو كان موجّهاً إلى سياسات الاحتلال الإسرائيلي، يُعدّ تعبيراً عن كراهيةٍ عنصرية.
ويتحوّل النقد المشروع إلى تهمة، والمظلوم إلى متّهم، ويُمنح الجلاد حصانةً أخلاقية مزيفة تحميه من المحاسبة، وتخوّن كل الأصوات التي تطالب بالعدالة والحق.
لكن إحدى أكبر المغالطات الفكرية والسياسية في القرنين العشرين والحادي والعشرين، هي أن مصطلح “السامية” تم اختطافه من قِبل فئة واحدة، ونُزع عن غيرها من الشعوب التي تنتمي للأصل السامي، وعلى رأسهم العرب.
وهذا التزوير لا يهدف إلا إلى محاصرة الهوية، وتبرير الاحتلال، وإسكات أصوات الحق التي ترفض الظلم والتطهير الثقافي.
وإننا اليوم، أمام مسؤولية تاريخية وأخلاقية، أن نُعيد استرجاع الحقائق، ونُصوّر التاريخ بأمانة، لنُثبت أن السامية ليست حكراً على أحد، وأن العدالة لا تُبنى على الظلم والخداع.
فلا لسرقة المصطلحات وتحويلها إلى سوطٍ يُجلد به كل من يرفض الجرائم الإسرائيلية، ولا للمتعطشين للدماء الذين لا يعترفون بحقوق الشعوب في الحرية والكرامة، والذين يمارسون كل أشكال الاحتلال والظلم باسم الدين ونقاوة العِرق.
لقد تحوّلت “السامية” من توصيفٍ لغوي وإثني يجمع شعوباً ذات عرق واحد، إلى سلاحٍ سياسيٍ مسموم، تحتكره إسرائيل وتلوّح به في وجه كل من ينتقدها أو يفضح جرائمها.
أما العرب — وهم الأصل التاريخي للسامية ولبنتها الأولى — فقد جُرّدوا من هذا الانتماء، وصُوّروا كدخلاء وأعداء.
والمفارقة الموجعة أن إسرائيل، التي تدّعي حماية “السامية”، تمارس أبشع صور التمييز والقتل والتهجير ضد شعبٍ عربيٍ سامي، ينحدر من ذات العرق واللسان الذي تدّعي الانتساب إليه.
إن هذا الاحتكار السياسي لمفهوم “السامية” لم يُسهم فقط في تشويه الحقيقة التاريخية، بل حوّله إلى أداة قمعٍ أخلاقي وفكري، تُخرس بها الأصوات الحرة، وتُشوَّه بها النوايا الصادقة.
وأصبحت تهمة “معاداة السامية” غطاءً يُبرّر القمع، ويُسوّغ الاحتلال، حتى صار الضحية يُجرَّم، والجلاد يُبرَّأ، والحقائق تُقلب رأساً على عقب.
والنتيجة أن العالم بات يتواطأ، بالصمت أو الدعم، مع رواية واحدة تُقصي الآخرين، وتحجب عنهم حتى حق الألم، وحق الحكاية، وحق الانتماء.
محاولة إسرائيل حصر “السامية” في اليهود فقط محاولةٌ ليست بريئة،
فهي تحاول احتكار الأخلاق، وتحجب الجرائم بها، وتصادر حق النقد، وتبتز العالم تحت شعار: “نحن الضحية الأبدية”.
لكن التاريخ لا يُخدع، والأرض لا تنسى، واللغة لا تكذب، ودماؤنا التي نراها تُراق لن تذهب هدراً، والكذب لن يصمد أمام ذاكرة الشعوب طويلاً، ولن تُغسل الدماء بشعارات الكراهية ومحاربة السامية، ولن تُحجب جرائم الاحتلال بلغةٍ مسروقة، وهويةٍ مغتصبة.
السامية ليست درعاً أخلاقياً لإسرائيل وحدها، ولا بطاقة إعفاء من النقد والمحاسبة.
واليهود ليسوا وحدهم من يحق لهم الحديث باسم السامية.
العرب أيضًا ساميون، لكنهم — للأسف — يُقتلون في هذا الزمن ويُشيطنون، لأنهم لا يملكون ماكينة إعلامية عالمية قوية تحميهم، ولا نفوذاً سياسياً يُخرس ألسنة من ينتقدهم أو يتهمهم بالإرهاب ومعاداة السامية.
لقد آن الأوان أن تُعاد المعاني إلى أصحابها الحقيقيين، وأن يُفكّك هذا الاحتكار الأخلاقي لمصطلح “السامية” الذي صار يُستخدم سيفاً مسلطًا على رقاب النقّاد، والحقوقيين، والمفكرين، والسياسيين.
فالعالم لا يحتاج إلى مصطلحات تمنح الحصانة للجلاد، بل إلى عدالة تُنصت لصوت الضحية أيّاً كان انتماؤه.
وحين تتحرر المفاهيم من قبضة الاستغلال والانتقائية، سيكون بإمكان الإنسانية أن تتحدث بلغة واحدة: لغة الحقيقة، لا لغة الابتزاز.
كاتب رأي
فعلا السامية ليست حكراً على أحد؛
ولو تأملنا التاريخ لوجدنا هناك تعارض كبير في الامتثال الحقيقي للسامية .
المقال يصحح الادعاءات والشعارات تحت ثوب السامية.
المقال عميق جدا وجريء، ويواجه تزوير المفاهيم ويضع خطوطا حمراء تحت الجمل المتكررة لدى من لايهمه أمر الإنسانية ،
مستمرين في تزييف التاريخ بلغة واعية، ومنطق عقلاني، وأخلاق إنسانية عالية.
المقال يلامس جوهر الحقيقة، ويهدم أبراج الزيف التي حاول فيها الغير بناءها فوق أنقاض التاريخ. لقد أعاد الكاتب تعريف ‘السامية’ بوصفها انتماءً إنسانيًا مشتركًا،
لا بطاقة احتكار ولا درعًا أخلاقيًا مزيفًا.
وقوة المقال في حجّته، وجماله في صدقه، وجرأته في كونه صرخة في وجه أعداء الإنسانية،
إن هذا النص ليس مجرد مقال،، دعوة للضمير العالمي أن يُنصت لصوت الحق والعدل قبل أن يُخنقه ضجيج التزييف.
جزاك الله الجنة
أوضحت يدك على الجرح
وفضحت مختطف السامية،
بجريمة إقصاء للعرب عنها
بينما هم شركاء …
اليهود بني صهيون عثوا في الارض فساداً والى متى ..؟
لكل شيء نهاية.!
نشكرك على الطرح الرائع نفع الله بما تكتب سعادة أخي ابوسلطان ،فالك طيب
الله ياابو سلطان ومنك نتعلم الله يطول بعمرك