بين رهبة الطريق وطمأنينة الروح

بين رهبة الطريق وطمأنينة الروح
رؤى مصطفى
في أحد الأحاديث العابرة، مازحتني زميلة قائلة: “القيادة في الرياض صعبة، وبعد شهر ستتصدر الصحف بخبر: الزميلة رؤى مصطفى في ذمة الله”. ابتسمت حينها وقلت بهدوء: “الموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً… تعددت أسبابه والموت واحد”.
لم يكن جوابي تهرّبًا من الدعابة، ولا رغبة في قطع الحديث، بل كان تذكيراً بحقيقة كبرى نغفل عنها في زحمة الحياة: أن الموت ليس حادثًا عارضًا، ولا يرتبط بمكان مزدحم أو طريق سريع فقط، بل هو رفيق دائم يطل علينا من بين تفاصيل حياتنا، حاضرًا في كل خطوة، قريبًا مهما حاولنا تناسيه. ورغم ابتسامتي، تمنيت لو أن عبارتها جاءت على هيئة نصيحة صادقة، لا دعابة عابرة مغلفة بالموت. فالكلمات ليست مجرد أصوات نتبادلها، بل هي بذور تترك أثرها في أعماقنا. كلمة تُقال بحب قد تكون قوة تدفعنا إلى الأمام، وكلمة أخرى تُقذف باستهتار قد تزرع في القلب قلقًا لا مبرر له. وحين يُستحضر الموت في صورة مزحة، فإنه لا يثير الضحك بقدر ما يوقظ هواجس دفينة، كأننا نُدعى دون وعي إلى التعايش مع الخوف بدل التغلب عليه.
القيادة في مدينة كبرى مثل الرياض لا تخلو من مشاهد مثيرة للرهبة: زحام لا ينتهي، أبواق سيارات تتعالى كأنها نداءات استنفار، وسائقون يمرّون بخفة البرق يمينًا ويسارًا. في تلك اللحظات، يتجلى خوف الإنسان من المجهول؛ خوف من أن تكون الخطوة القادمة هي الأخيرة، أو أن يتحول خطأ بسيط إلى كارثة. لكن… هل يعني ذلك أن نتوقف عن القيادة؟ أو أن نحجب أنفسنا عن خوض التجارب الجديدة لأن فيها خطرًا محتملاً؟ إن رهبة الطريق ليست سوى انعكاس لصورة أكبر: خوف الإنسان من المجهول. فالوظيفة الجديدة طريق مجهول، والسفر طريق مجهول، وحتى الزواج أو تكوين أسرة طريق مجهول. وفي كل مرة يقف الإنسان أمام هذه المفترقات، يواجه سؤالًا عميقًا: هل يعيش حياته أسيرًا للخوف، أم يتوكل على الله ويسلك الطريق بثقة؟
الموت، في جوهره، ليس نهاية فحسب، بل هو معلّم صامت يذكّرنا بقصر أعمارنا، ويُلحّ علينا أن نعيش اللحظة الحاضرة كأنها أثمن ما نملك. حين نوقن بأن كل شيء فانٍ، تصبح الحياة نفسها هدية لا تُقدّر بثمن. وحينها، تتحول القيادة – أو أي تجربة جديدة – من مجرد حركة عملية إلى درس في الشجاعة والإيمان. وفي ديننا الحنيف توازن بديع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله. لم يُطلب منا أن نلقي أنفسنا في التهلكة باسم الإيمان، كما لم يُطلب منا أن نستسلم للهلع والجبن. بل طُلب منا أن نسعى، أن نحتاط، وأن نطمئن بأن الأقدار بيد الله. القيادة هنا تصبح رمزًا: نحن نمسك بالمقود، نتحكم في السرعة، نتبع القوانين، لكننا في النهاية نعلم أن العمر مكتوب، وأن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر ساعة.
الاستسلام للخوف موت مبكر للروح. فما جدوى أن نحيا أعوامًا طويلة ونحن محاصرون بالهواجس، عاجزون عن التجرؤ على الطريق؟! الشجاعة ليست إنكار الخوف، بل مواجهته، وتحويله إلى دافع للحيطة لا إلى سجن يقيّد حركتنا. وكل رحلة على الطريق تحمل معاني أبعد مما نظن. فهي درس في الصبر وسط الزحام، ودرس في ضبط النفس أمام أخطاء الآخرين، ودرس في الثقة بالله حين يتأزم الموقف. وهكذا يتحول الطريق من مجرد إسفلت وسيارات إلى مسرح مصغر يعكس معركة الإنسان الكبرى مع نفسه ومع مخاوفه.
الحياة لا تُبنى على الهروب من المجهول، بل على مواجهته بالوعي والحذر والتوكل. الموت حق لا شك فيه، لكن الأجمل أن نعيش قبله بكرامة وشجاعة، أن نذوق طعم التجارب لا طعم القلق، وأن نترك خلفنا أثرًا من الطمأنينة لا من الخوف. فما أجمل أن نسير في طرقاتنا مدركين أن الأجل بيد الله، لكن القلب عامر بالثقة والطمأنينة. حينها فقط، يصبح الموت نهاية طبيعية، لا كابوسًا يطاردنا، وتصبح الحياة تجربة ممتلئة بالمعنى… تستحق أن تُعاش حتى آخر لحظة.
كاتبة رأي