الراحل محمد بن مريسي وعطاء من ذهب

مشعل الحارثي
الراحل محمد بن مريسي وعطاء من ذهب
ليس في الفجيعة أقسى من الغياب، وليس في الغياب أوجع من الرحيل. نعم، كم هي صعبة ومؤلمة صدمة الغياب وتوالي قوافل الراحلين الأبدي عن دنيانا، وخاصة من نحب ومن لهم في القلب والروح مكان ومتسع، وممن كانوا لنا نبض حياة ودفق علم ونبراس من نور.
أقول ذلك عندما وصلتني ببالغ الحزن والأسى رسالة أخي وصديقي الأستاذ الدكتور سليمان كمال مساء يوم الثلاثاء 18 شعبان 1446هـ ليبلغني برحيل زميله وجار داره بمكة المكرمة وأحد أبرز فرسان ورواد الساحة الأدبية السعودية والعربية، ورموزها الفكرية، الأديب الأستاذ الدكتور محمد بن مريسي الحارثي، أستاذ البلاغة والنقد وعميد كلية اللغة العربية وأستاذ الدراسات العليا بجامعة أم القرى، ورئيس النادي الأدبي الثقافي بمكة المكرمة الأسبق، وذلك بعد صراع مع المرض امتد به لعدة سنوات، فرحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه فسيح الجنان.
وفقيدنا الراحل رجل غني عن التعريف والإطراء، تعرفه أعماله وتذكره أفعاله، ولا يختلف على تقدير عطائه الفكري اثنان. فهو صاحب نتاج أدبي وثقافي غزير يشع بنوره على محيطه المحلي والعربي بعد أن عُرف معلماً ومربياً، وأستاذاً جامعياً، وناقداً، وكاتباً، ودارساً، وباحثاً، ومبدعاً، ومن الرجال الذين ما تاهت خطاهم في فوضى الأيام، بل استباح الوقت والمكان بنبل الأخلاق وطيب الثنايا والفعال، فكان الرصين من رؤى وحكم، ومن الذين تجسدت قضيتهم ورسالتهم في نفوسهم تجسد القسم.
وإن سبق القول بأن الشاعر أحمد شوقي كانت أسطورته التي حكمت مجرى حياته البحث عن لآلئ الشعر، فإن أسطورة أستاذنا الدكتور محمد بن مريسي أنه لا يصرف من القول إلا الذهب، بعد أن وعى رسالته النبيلة ووقع أسيراً لروعة اللغة الشاعرة بخصائصها وتراكيبها وبلاغتها وتراثها الغني بروافده الغزيرة. فكان القول منه على قدر المعاني، وأسلوبه هو أسلوب السهل الممتنع الداني المرتفع، المتقيد بشرف الكلمة والمثل العليا. وأما في منهج نقده، فلم يكن ممن يحمل عصاه بعنف وقوة ليصفع بها المنقود، ولم يكن نهجه التهكم والتجريح والسباب، بل كان مدرسة في فن النقد العفيف النظيف، وكان يُقبل على المنقود بصفة الدارس المتفحص، ونقده كان انعكاساً لسعة علمه وذوقه الرفيع، وإظهاراً لمواطن القوة ومواطن الضعف في الأثر المنقود، مما يدفع بصاحبه إلى مزيد العناية والتجويد، وتلك، لعمري، هي الغاية والمقصود.
لقد سبق في تراثنا الشعري القول بأن أحداً من الشعراء لم يتوافر له حظ من الشعر كما توافر لزهير بن أبي سلمى، فقد كان أبوه ربيعة شاعراً، وكان خاله بشامة بن العذير الغطفاني شاعراً، وكانت شقيقتاه الخنساء وسلمى شاعرتين، وكان نجلاه كعب وبجير شاعرين، وكان حفيده عقبة بن كعب شاعراً، وزوج أمه أوس بن حجر شاعراً. وكذلك هي حال أستاذنا الدكتور محمد بن مريسي الحارثي، رحمه الله، فهو شاعر، وأبوه شاعر، وأخوه شاعر، ومن أسرة عُرفت بالحكمة والشعر كابراً عن كابر. ولم تُفسد الحضارة والمدنية التي عاشها متنقلاً بين عدة مدن، وبعد مرحلة البداوة التي قضاها في ذرى منطقة ميسان بني الحارث، وتحديداً في قبيلته التي ينتمي إليها (اليزيد من آل موسى)، من سحنته وتلوّي ذرب لسانه، بل زادته طلاقة وإشراقاً في بيانه، فكان قوله الفصل وكلامه الكلام الجزل الصادر عن طبع أبي، وخاطر ذكي، ونبع سخي. ومن له كل هذه المنابع الفياضة والأرومة الأصيلة المبدعة انعقدت له دواعي الفخر والعز والشرف. وقد قال بعض الأعراب: نحن أمراء الكلام، فينا وُشجت عروقه، وعلينا تدلت غصونه، فنحن نجني منها ما أحلى وعذب، ونترك ما أملولح وخبث.
لقد كنا عندما نجلس إلى أستاذنا الراحل، وفي أي مناسبة تجمعنا، نلمس فيه روحاً مفعمة بالإبداع، ونتعلم منه التواضع والفكر الناصع والثبات والإيمان بالمبادئ، وقوة الحجة، وسمو الرؤية ووضوح الهدف، وقبل ذلك كله ما يطوى عليه قلبه من عقيدة وإيمان متأجج، وأصالة عربية راسخة. وتراه منصتاً باهتمام لآخر ما في جعبتك من ركام وكلام، ولا يغادرك حتى تثق بقدرات الرجال الذين يتسع صدرهم للشمس والصبر والنظر الثاقب. ونجد أننا نقف أمام متحدث يجبرك عطاؤه وإنجازاته على متابعته بشغف، وتلوكنا الحسرة على أي وقت ضاع أو فات علينا ولم نستفد من بحور علمه وفيض أدبه. فهو بحق مدرسة في العطاء والمثابرة. ومنه تعلمنا الكثير والكثير من الدروس، ولعل في مقدمتها أن نعطي بلا كلل، وأن نثابر بلا ملل ولا وهن، وأن نتوج كل ذلك بالعزيمة والإرادة لتحقيق الذات، وأن يكون هادينا ورائدنا دوماً طاعة المولى عز وجل وحب الوطن وقادته وكل ما ينتمي إليه من قيم وشيم ومثل عربية أصيلة.
إننا ونحن نودع هذه القامة الشامخة، رفيعة القدر والمكانة، من حياتنا، فأعماله وآثاره العديدة ستبقى شاهدة وخالدة في أذهان أصدقائه وطلابه والباحثين والدارسين، وقبل ذلك كله تلاقي القلوب على حبهم لشخصه وتقديرهم لعلمه وعطائه. فلتهنأ، أبا مشهور، حتى بعد رحيلك بهذا الحب، وبما بذرته في النفوس من الأخلاق الفاضلة والسجايا الحميدة، وما تركته من أثر كريم بسيرتك العطرة، وما غرسته يمناك، ولهج به لسانك، ودونه قلمك من علم وفكر وأثر باقٍ إلى يوم الدين.
ولا يسعني في الختام إلا أن أدعو الله جل في علاه بأن يتغمد الفقيد بواسع رحمته وعظيم مغفرته، وخالص التعازي والمواساة أقدمها لأسرته الكريمة، ولأبنائه: الدكتور منصور الحارثي، مدير أكاديمية الشعر العربي والمشرف على جائزة الأمير عبدالله الفيصل للشعر العربي، والدكتور مازن الحارثي، عميد كلية الآداب بجامعة الطائف، والأستاذ مشهور الحارثي، والدكتورة ندى الحارثي بجامعة أم القرى، ومجاهد الحارثي، ولقبائل بني الحارث عامة، ولزملائه من أعضاء هيئة التدريس بجامعة أم القرى، ولرجال الفكر والأدب في بلادنا. ألهمنا الله الصبر والسلوان على فراقه ووداعه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
بعداالشكر والتقدير للأستاذ مشعل
على اهتمامه
يجدر التنبيه على أن مسقط رأس البروفيسور محمد بن مريسي الحارثي
هو الصور بني الحارث
وادي الصور أو قرية الصور أو “الحارثية” مكان الميلاد الرسمي ومنطلق دراسته الإبتدائية ومنتهى إقامته الدائمة
تحول بعد ذلك إلى متوسطة دار التوحيد فثانوية دار التوحيد في الطائف ثم كلية الشريعة في مكة المكرمة تابعة إلى جامعة الملك عبدالعزيز رحمه الله
ولاعلاقة له بميسان إلا ضيفاً مدعواً بصفته العلمية أو بصفته الاجتماعية
أو زائراً لساعات معدودة
محباً تطوف محبته على
كل أرجاء مدن وقرى الوطن من شرقه لغربه ومن شماله لجتوبه
رحمه الله وغفر له وأكرم نزله في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار
رحم الله أستاذي الغالي في متوسطة المثنى بن حارثة بالطائف وجاري بحي العوالي في مكة المكرمة وزميلي في جامعة أم القرى الأستاذ الدكتور محمد بن مريسي الحارثي لم يكن يصدق بموت زميلي في القسم الأستاذ الدكتور ناصر الحارثي ودائماً يذكره لي رحمه الله رحمة واسعة ٠