*الخليج العربي على صفيحٍ ساخن*

*الخليج العربي على صفيحٍ ساخن*
في ظل التطورات المتسارعة والتحولات الجيوسياسية التي يشهدها العالم، والشرق الأوسط على وجه الخصوص، يبدو الخليج العربي وكأنه يقف على صفيح ساخن، تتقافز عليه شرارات التوترات الدولية والإقليمية، وتتنازع فوقه المصالح الكبرى للدول العظمى والقوى الإقليمية. فالتوترات بين إيران والولايات المتحدة، والاشتباكات غير المعلنة والسباق المحموم نحو التصعيد والاضطرابات الأمنية في بعض دول الجوار، كلها تشكل عناصر تفجير محتملة في أي لحظة.
الخليج العربي ليس فقط منطقة غنية بالنفط والغاز، بل هو أيضاً ممر استراتيجي حيوي يمرّ عبره ما يقرب من ثلث إمدادات الطاقة العالمية. هذا الموقع الجغرافي جعله عرضة لصراعات النفوذ منذ عقود، بدءاً من الحرب العراقية الإيرانية، مروراً بغزو الكويت، ثم احتلال العراق، وصولاً إلى التوترات الحالية التي تتخذ أشكالاً غير تقليدية، مثل الهجمات السيبرانية، والحرب عبر الطائرات المسيّرة، والاشتباكات بالوكالة.
وفي الآونة الأخيرة، تصاعدت وتيرة الأحداث مع تعرض منشآت نووية إيرانية لهجمات .. وتبادل التصريحات الحادة بين طهران وواشنطن، وقيام إيران بشن هجمات على مواقع في دول الخليج كقاعدة العديد في قطر، ما أعاد إلى الأذهان سيناريوهات الحروب السابقة، لكن بلغة جديدة. لم يعد المشهد يعتمد على الغزو الكلاسيكي، بل على حروب تكنولوجية، وحملات تضليل إعلامية، وضغوط اقتصادية،.
وفي وسط هذا المشهد الملبد بالغيوم، تلعب المملكة العربية السعودية دوراً محورياً في الحفاظ على استقرار المنطقة، إذ تجمع بين الدبلوماسية الهادئة والقوة الرادعة، وتسعى إلى احتواء التصعيد من خلال الحوار والتنسيق مع الحلفاء الإقليميين والدوليين. كما أن التحالفات الجديدة، مثل “رؤية الشرق الأوسط الجديد” والتوجه نحو تنويع الشراكات الدولية، تعزز قدرة دول الخليج على التعامل مع التحديات بأدوات أكثر مرونة وحكمة.
إن الخليج اليوم يقف أمام مفترق طرق حساس، فإما أن ينزلق إلى مواجهات تُهدد أمن العالم بأسره، وإما أن يُشكل نموذجاً ناجحاً في إدارة الأزمات وبناء مستقبل أكثر استقراراً.
نعم إن الخليج العربي على صفيحٍ ساخن بين التصعيد الإيراني وتحولات متسارعة مع تصاعد التوترات بين إيران والولايات المتحدة، وتكثّف الضربات الجوية لتعود المنطقة إلى مربع القلق، وتبدأ الأسئلة الكبرى في التزايد: هل نحن على أعتاب مواجهة عسكرية شاملة؟ وهل يشكّل هجوم إيران على قاعدة العديد في قطر بدايةً لمرحلة جديدة من التصعيد؟ وما مدى قوة الوضع في الخليج العربي من حيث الملاحة الجوية والبحرية؟
في خضم هذه الأسئلة، يلوح شبح الماضي في الأفق. يتساءل البعض: هل يمكن أن نشهد تكرارًا لسيناريو غزو العراق للكويت، ولكن في نسخة إيرانية هذه المرة؟ سؤال يبدو منطقيًا في ظاهره، لكنه لا يصمد طويلًا أمام التحليل العميق للتحولات الجيوسياسية وموازين الردع الجديدة في المنطقة.
الفرق الجوهري بين لحظة 1990 ولحظة اليوم يكمن في طبيعة الفاعلين وسيناريوهات الصراع. فبينما اعتمد صدام حسين على اجتياح عسكري تقليدي، تعتمد الاستراتيجية الإيرانية على التمدد غير المباشر عبر الأذرع المسلحة والميليشيات، وغيرها كالمسيّرات التي باتت سلاحًا مفضلاً لإيران ووكلائها، وغيّرت قواعد الاشتباك في المنطقة. واتاحت توجيه ضربات دون التورط في حرب شاملة. هذه الأدوات، وإن منحت طهران قدرة تكتيكية، إلا أنها تفرض تحديات أمنية متزايدة على دول الخليج، التي أصبحت تعتمد على أنظمة دفاع متقدمة، وتموضع عسكري محسوب، وتحالفات ردع استراتيجية مع القوى الكبرى.
وفي قلب هذه المعادلة، تبرز المملكة العربية السعودية بوصفها اللاعب المحوري والأقوى وصمام الأمان الإقليمي. فهي القوة الأعظم بين دول الخليج، والسد المنيع الذي تتكسر عنده محاولات الفوضى والتوسع. فلم تعد المملكة مجرّد طرف في التوازنات، بل أصبحت ركيزة الاستقرار وصاحبة الدور القيادي في مواجهة التغيرات المتسارعة. ما تمتلكه الرياض من قدرات عسكرية، وسياسات متزنة، وتحالفات وعلاقات دولية، يجعل منها حجر الزاوية في أي جهد يُبذل لحماية المنطقة من الانزلاق نحو المجهول.
وقد عبّرت المملكة بوضوح عن استنكارها لتأزم الصراع في الشرق الأوسط، ودعت المجتمع الدولي إلى تحمّل مسؤولياته، والعمل الجاد لخفض التصعيد، والعودة إلى طاولة الحوار، وتغليب صوت العقل على منطق القوة. إنها دعوة تنسجم مع الثوابت السعودية في السياسة الخارجية، القائمة على احترام السيادة، وحل النزاعات بالطرق السلمية، وتعزيز الأمن الإقليمي والدولي.
وأثبتت المملكة في السنوات الأخيرة وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ال سعود -حفظه الله-قدرتها على الجمع بين الحزم العسكري والحنكة الدبلوماسية. فهي تتصدى لأي تهديد أمني، وفي الوقت ذاته تسعى إلى تفكيك الأزمات قبل أن تتفاقم، من خلال الحوار البنّاء والتحرك السياسي المتوازن. وقد عزّزت رؤية المملكة 2030 من مناعتها الداخلية، ورفعت كفاءة مؤسساتها الدفاعية، وأعادت تعريف مفهوم القوة الوطنية ليشمل الاقتصاد، والتكنولوجيا، والسيادة الرقمية، والعلاقات الاستراتيجية.
ورغم أن النية الإيرانية لا تبدو موجهة نحو حرب تقليدية مباشرة، إلا أن خطر التصعيد قائم دائمًا، خاصة من خلال الوكلاء والميليشيات الذين قد يتحركون بشكل منفصل عن القرار المركزي. وهنا يظهر بوضوح الدور الاستباقي للمملكة في احتواء التوترات وتوجيه الردع وفق مسارات مدروسة تضمن الاستقرار، دون الانزلاق نحو مواجهات مفتوحة
المملكة اليوم لا تقف وحدها، لكنها تقف أولاً، ومعها شركاء إقليميون ودوليون، شكلوا معًا جدارًا من التوازن والدفاع الذكي. وقد أسهم هذا التماسك بين القوة والانفتاح في حفظ الخليج من الانهيار، ومنح شعوبه فرصةً للتنمية بعيدًا عن عبث الميليشيات أو أخطاء الحسابات العسكرية.
ما نشهده اليوم ليس تكرارًا لسيناريوهات الماضي، بل فصل جديد من فصول التنافس والصراع، حيث تتقاطع الحرب التقليدية مع الحروب السيبرانية، والإعلامية، والمُسيّرة. والخليج، بما يحمله من ثقل جيوسياسي واقتصادي، لا يتحمل المفاجآت، بل يحتاج إلى استباقها بعقلانية وتحالفات قائمة على الرؤية بعيدة المدى.
ختامًا، يبقى الأمن الخليجي مسؤولية جماعية، تتطلب تجاوز ردود الفعل إلى صناعة المبادرات، وتشييد استراتيجيات ذكية تستبق الأزمات قبل وقوعها. وبين كل هذه التحديات، تبقى المملكة العربية السعودية — كما يبدو — عنوانًا رئيسًا في معادلة الاستقرار، تقود المشهد بثقة، وتحرسه بقوة، وتصنع فيه توازنًا دقيقًا بين الردع والسلام؛ توازن لا ينبع من القوة فحسب، بل من البصيرة والقدرة على قراءة المشهد الإقليمي والدولي بعين المستقبل.
ويبقى السؤال: هل تتغلب لغة المصالح الاقتصادية والاستقرار السياسي على طبول الحرب، أم أن الصفيح الساخن سيشتعل أكثر؟
بقلم. د.عبدالرحمن الوعلان
معد برامج تلفزيونية وكاتب