كُتاب الرأي

العوض الذي لا يخيب

مريم فرح الدين

العوض الذي لا يخيب

يقولون لي: “الله يعوضك”…
فأهمس بقلبٍ دامع: “آمين”…
وأرفع يدي إلى السماء، أتعلق بذلك العوض كمن يتعلق بطوق نجاة وسط بحر من الخسارات…
أرسم له صورة براقة في خيالي، وأحلم به يطرق بابي ذات صباح، يغير ملامح حياتي، يجبر قلبي، ويرمم جروحي
أركض نحوه بشغف، بلهفة، كطفلة تنتظر هدية طال غيابها.

وحين تلوح لي فرصة، أراها بعين المتلهف الجائع…
أظنها تلك اللحظة المنتظرة، ذلك العوض الذي سيبدل أحزاني أفراحًا…
أهرع إليها بكل ما بقي لي من أمل، وأمد قلبي نحوها كمن يتشبث بآخر خيط حلم…
لكن سرعان ما تنكشف الحقيقة…
كانت سرابًا آخر…
خيبة جديدة تُضاف لقائمة الخيبات التي باتت تسكن صدري…
وأعود لألهث من جديد خلف العوض، كمن يدور في دائرة لا تنتهي.

لكن شيئًا ما تغير مؤخرًا داخلي…
أدركت بعد طول لهث أن هناك وجعًا لا يجبره شيء في هذه الدنيا…
هناك فراغات في الروح لا تملؤها الأرض بما فيها…
هناك خسارات لا تملك الدنيا أن تعوضها، ولا الزمن قادر على مداواتها.

حتى لو جمعت لي الدنيا بأكملها…
حتى لو عوضني الله في الدنيا بأعظم العوض…
من سيعيد لي العمر الذي مضى؟
من يعيد لي شباب القلب، شغف الروح، حضور الأحباب، دفء الابن الذي غاب؟
لا شيء من متاع الدنيا قادر أن يسد هذه الثغرات العميقة، لأنها ليست من جنس الدنيا، بل من جنس السماء.

وقد عرفت يقينًا أن العوض الدنيوي إن جاء، فهو اختبار آخر…
كيف سنتعامل معه؟
هل سنشكر الله عليه؟ أم سنغتر به ونستخدمه في المعصية؟
هل سنُطغى بما بين أيدينا، وننسى من أنعم به علينا؟
أم سنظل أوفياء لحقيقة الدنيا أنها دار ابتلاء، لا دار جزاء؟
فالعوض مهما كان جميلًا، يبقى ناقصًا، ويبقى ظلاً لا أصل له، ويبقى امتحانًا جديدًا لقلب المؤمن، كيف سينصرف وكيف سيحفظ نعمته من الغفلة.

أدركت أن الدنيا… صغيرة، ناقصة، مخدوعة بزخرفها.
أنها تبيعنا الوهم بأغلى الأثمان…
تخدعنا بوعودها الكاذبة…
تتزين للغافلين…
تمنحنا شيئًا من لذتها، لكنها سرعان ما تسترده، وتتركنا في منتصف الطريق بين الحيرة والخيبة.

الدنيا، كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ملعونة…
وملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم.
هي ملعونة إن شغلتنا عن الله، إن سكن حبها قلوبنا، إن جعلناها غايتنا لا طريقنا.
هي ملعونة إن ظننا أن العوض منها وحدها…
لكنها تكون مباركة حين تكون جسراً نعبره للآخرة، حين نصبر فيها ونحتسب، حين تكون مزرعة للآخرة لا قيداً للروح.

العوض الحقيقي… هناك، في الجنة.
هناك فقط، تطيب القلوب التي كُسرت…
هناك فقط، تضحك الأرواح التي بكت طويلًا…
هناك فقط، تعود الأرواح إلى فرحها الذي لا يعادله فرح.

أما هنا… كل شيء ناقص…
كل فرح مؤقت…
كل لقاء منقوص…
كل عوض على مقاس الدنيا، لا على مقاس أرواحنا المتعطشة للكمال.

فقد الابن… أي عوض يسد هذا الفراغ؟
فقد الصحة في عز الشباب… من يعيدها كما كانت؟
فقد الحلم… فقد الأحباب…
كل هذه الخسارات، لا يجبرها إلا وعد الله بجنة عرضها السماوات والأرض.

وإلى أن نصل…
نحن فقط عابرو سبيل، نحمل أحزاننا كزاد الطريق،
نزرعها صبرًا، ونرويها دعاءً، ونجعل قلوبنا معلقة بوعد الله، لا بوعد الدنيا…
فهي ملعونة إن شغلتنا، لكنها مباركة إن قادتنا إليه

فما الحياة إلا ممرٌ سريع… نُبتلى فيها كي نتأهل لذلك النعيم الذي لا يبهت، ولا يخيب.
وفي القلب، رغم الخيبات… يظل هناك يقين صامد أن الله لا يخذل عباده الصابرين، وأن ما خبأه لنا في الجنة أعظم بكثير مما فاتنا هنا.

كاتبة رأي

 

 

مريم فرح الدين

كاتبة رأي و مؤلفة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى