كُتاب الرأي

الحج عبادة .. لا عادة

اللواء الركن م. الدكتور

بندر بن عبد الله بن تركي آل سعود

الحج عبادة .. لا عادة

 

من رحمة الله سبحانه وتعالى، الرحمن الرحيم، ولطفه بعباده، جعل فريضة الحج على المسلمين مرة واحدة في العمر، لمن استطاع إليه سبيلاً. وقد فسَّر العلماء الاستطاعة بالقدرة المادية والجسدية وتوافر الأمن. ولأن شروط هذه الاستطاعة قد لا تتوافر لكل مسلم طيلة حياته، كانت فريضة الحج مرة واحدة في العمر، ويُسْتَدَلُّ على هذا بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال: (يا أيها الناس، قد فُرِضَ عليكم الحج فحجوا). فقال رجل من الصحابة: (أيجب علينا الحج كل عام مرة يا رسول الله؟). فسكت النبي صلى الله عليه وسلم. فأعاد الرجل سؤاله. فقال النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: (لو قلت نعم لوجبت، وما استطعتم). ثم قال: (ذروني ما تركتكم). وأحسب أن الكل يدرك جيداً أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حج حجَّة واحدة، هي حجة الوداع، واعتمر أربع مرات.

ومع هذا، حوَّل بعض المسلمين هداهم الله، الحج من عبادة عظيمة إلى عادة، فتسمع من يقول إنه حج سبع مرات، وآخر يقول حج عشرين مرة، وقد سمعت مرة يقولون إن فلاناً هذا حج تسعة وثلاثين مرة. أنا لا أقول كل أولئك يأتون إلى مكة المكرمة فيطوفون ويسعون ويقفون بعرفة ويرمون الجمرات رياءً أو نفاقاً، فليس من حقي أن أحكم على نيتهم، فالله وحده حسيبهم، غير أنه مجرد أن تسمع عن هذا في المجتمعات، فربَّما لا يعني الأمر مؤشراً خالص النية، فليتركوا الأمر بينهم وبين خالقهم، ولا داعٍ للحديث عنه للآخرين. على كل حال، ما يهمني هنا: صحيح، الحج مرة واحدة في العمر، لكن لا بأس للمستطيع أن يحج أكثر من مرة، أما إن ترك المجال لغيره ممن لم يحج حجة الفريضة، بل ذهب أكثر من ذلك، فتحمَّل نفقة من لم يستطع أن يوفر نفقات حجة الفريضة، يكون خيراً فعل، وفي الوقت نفسه لن يُحْرَم الأجر هو أيضاً ن شاء الله.

وصحيح، كانت رحلة الحج قبل تأسيس هذه الدولة السعودية المباركة، دولة الرسالة السَّامية العظيمة على يد المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، باستعادة الرياض فجر الخامس من شهر شوال 1319، الموافق لليوم الخامس عشر من شهر يناير 1902، إثر ملحمة فريدة، تسلَّح أبطالها بالإيمان واليقين والثقة المطلقة في نصر الله، قبل أن يتسلحوا بالسيف والبندق.. أقول، كانت رحلة الحج قبل تأسيس الدولة السعودية محفوفة بالمخاطر، لدرجة أن الناس كانوا يقولون: الذاهب إلى الحجاز مفقود، والعائد منه سالماً غانماً مولود؛ بسبب انفراط عقد الأمن، وتهديد قطاع الطرق وعصابات السلب والنهب لقوافل الحجيج التي تأتي من كل فجٍّ عميق، إذ كان هؤلاء المجرمين يهددون الحجيج، فيسلبونهم كل ما معهم من رواحل ومتاع وزاد وعتاد، ثم يتركونهم هائمين في الصحراء على وجوههم، هذا بالطبع إن لم يذهبوا بعيداً في إيذائهم فيجندلونهم. ونتيجة بشاعة ما كانت تتعرض له قوافل الحجيج مما يرتكب بحقها من جرم فظيع، ذهب بعض الفقهاء وقتذاك، إلى عدم وجوب الحج لاضطراب الأمن، وعدم قدرة الحجاج على الوصول إلى مكة المكرمة ثم العودة منها سالمين آمنين مطمئنين.

فلما جاء الملك عبد العزيز آل سعود، كان أول هاجس يمثل أعظم تحدٍّ له، هو هاجس إرساء الأمن وبسطه، وتحقيق الأمان والاطمئنان والاستقرار، لحماية المقدسات وضمان وصول الحجاج إليها سالمين مطمئنين، وتنقلهم بينها في تؤدة وسكينة، فيخشعون في عبادتهم، إضافة إلى رفع المظالم التي أثقلت كاهل العباد، أداءً لرسالة هذه الدولة المباركة السامية العظيمة التي من أجلها أُنشئت.

فحقَّق الله له ما أراد، فأصبح الراكب يسير من الشام إلى اليمن، لا يخشى إلا الله ثم الذئب على غنمه. كما أولى أمر الحجيج جُلَّ اهتمامه، وبذل كل ما في وسعه لتحقيق راحتهم من لحظة وصولهم إلى مكة المكرمة والمشاعر المقدسة حتى أداء الفريضة ومغادرتهم الديار المقدسة، لاسيَّما ما يتعلق من شؤونهم بأمر الصحة العامة والغذاء والإسكان والنقل، وتوعية بأداء المناسك والتعاون على البِرِّ والتقوى. كما اهتم أيضاً بوضع حدٍّ للخلافات العقدية والمذهبية التي لم تكن تتفق على إمام واحد في الحرم المكي، بل طال الاختلاف حتى تحديد دخول شهر ذي الحجة، فاختلف أصحاب تلك العقائد والمذاهب الفاسدة المتشعبة في الوقوف بعرفة، فمنهم من كان يقف يوم الجمعة مثلاً، ليقف آخرون يوم السبت… إلخ. وهكذا تغير أمر الحج بفضل الله عزَّ و جلَّ، ثم بصدق نيَّة المؤسس وإخلاصه وعمله الدءوب الجاد، من رحلة محفوفة بالمخاطر، إلى رحلة أمن وأمان واطمئنان وسكينة، وهكذا أصبح عدد الحجاج يزداد عاماً فعاما، كما أكَّد الشاعر مصطفى السكران في قصيدة له بعنوان (مَنْ كعبد العزيز؟) ألقاها أمام الملك عبد العزيز عام 1367:

أمَّنَ الحجاز بعدله في حكمه

من رائح في أرضه أو غادي

زاد الحجيج زيادة لم يحصها

رقم من الأرقام والأعداد

والحقيقة ذُهِلَ الشعراء كثيراً بما حقَّقه المؤسس لضيوف الرحمن من أمن وأمان وطمأنينة وراحة وسكينة، فسرح خيالهم وسال حبرهم يدبِّج قصائد عديدة تؤكد تلك الجهود الاستثنائية الفريدة التي بذلها الملك عبد العزيز، أداءً لرسالة بلاده السامية العظيمة.

ويروق لي كثيراً في مثل هذا الحديث، الاستشهاد بما رسمه خيال الشاعر المخضرم المبدع أحمد إبراهيم الغزاوي، شاعر الملك عبد العزيز، صاحب الإنتاج الرائع الغزيز، إذ يقول في رائعته التي ألقاها أمام الملك عبد العزيز عند قدومه مكة المكرمة بعنوان (قد شاء ربُّك أن تكون موفقاً):

أما الحجيج فقد بذلت لأجله

غالي النضار فحاز أسمى مقصد

أنَّى يحل تحفُّه حسناتكم

ويبيت يمرح في نعيم أرغد

يجد المياه تدفقت فوراتها

في كل حي بالطريق وفدفد

وينام ملء جفونه عن ماله

مما استتب له من الأمان الأوكد

ويقول الغزاوي هذا في رائعة له أخرى بعنوان (فاهنأ بما أوتيته من نعمة)، وما أكثر روائعه، ألقاها أمام الملك عبد العزيز بمناسبة قدومه مكة المكرمة عام 1358:

فغدت بلادك بالهدى محروسة

يحمي حماها “الواحد المعبود”

يرتادها الحجاج في غلس الدُّجى

والأمن بين شطوطها ممدود

فكأنما هي جنَّة وقطوفها

الدِّين والإسلام والتوحيد

ويقول الشاعر أحمد حسن ستي الدمشقي في قصيدته التي ألقاها أمام الملك عبد العزيز عام 1345، يوضح فيها حال الأمن في الحجاز قبل مجيء الملك عبد العزيز وبعده، بعنوان (ليحيا المليك التغلبي الموفق):

فهذا الحجاز اليوم يزهو بحسنه

يجر ثياب العز تيهاً ويأنق

ويرفل في التنظيم مغتبطاً به

بأمن عجيب لا يكاد يصدق

وكان قديماً للحجيج مجازراً

سرت أنهاراً فيه الدماء تدفق

ويقول الشاعر محمد سراج خراز في قصيدة له بعنوان (لمن المحفل الذي قد أعدا) ألقاها أمام الملك عبد العزيز بمناسبة قدومه مكة المكرمة عام 1362:

شاد بالعدل للعروبة ملكاً

ولدين الإسلام ركناً أشدا

وتهادى الحجاز منه بعهد

ذهبي أكرم بذلك عهدا

قبله كانت الخرافات فيه

سحباً تمطر الرزايا ورعدا

ويؤيده الشاعر محمد محمود الزبيدي اليمني في قصيدته بعنوان (قلب الجزيرة في يمينك يخفق) التي ألقاها أمام الملك عبد العزيز عند قدومه مكة المكرمة عام 1358:

وبذاك أمَّنت الحجيج وأفهموا

أن الفريضة قربة لا مأزق

وهدمت كل عقيدة ممقوتة

كانت تضل بها العقول وتزهق

وفي قصيدته بعنوان (يا تاج كل مملك وجماله) التي ألقاها الشاعر عمر البري أمام الملك عبد العزيز عام 1364، يؤكد أنه بعد مجيء المؤسس، أصبح ليس الحجاج وحدهم، بل حتى الخائفون في بلدانهم لا يجدون الأمن إلا إذا جاؤوا بلادنا:

كل بوسط بلاده متخوف

دعوى الأمان لديه لا تتحقق

 

إلا إذا جاء الحجاز فإنه

مستأمن نفسه مستوثق

والحقيقة ما زالت بلادنا المباركة هي أكثر بلدان العالم أمناً بفضل الله عزَّ و جلَّ وتوفيقه، ثم بجهد قادتها وأهلها، وستظل كذلك إلى الأبد إن شاء الله. بل أصبح الأمن والأمان والاطمئنان والاستقرار ماركة سعودية مسجلة، ليس لحجاج بيت الله الذين أصبح الحج لهم سياحة (سبعة نجوم) فحسب، بل لكل من يعيش على ثراها الطاهر من مواطنين ووافدين.

ويقودني هذا للحديث عن عادة حميدة حرص قادة آل سعود على العمل بها منذ بزوغ فجر هذه الدولة المباركة، فكان الملك عبد العزيز يقود موكب الحجيج طيلة حياته، ولم يتخلف عن هذه العادة مطلقاً إلا بعد أن أقعده المرض؛ يكون مع ضيوف الرحمن يتفقدهم في الطواف والسعي وفي بقية المشاعر، يحرص على أمنهم وتوفير كل ما من شأنه راحتهم، ضماناً لأدائهم الفريضة في أمن واطمئنان وخشوع وسلام، ثم يستقبل رؤساء الوفود ويكرمهم ويتفاكر معهم في كل ما يهم شؤون المسلمين، وهكذا أصبح الحج مؤتمراً جامعاً حقاً.

وما زال قادة بلادنا حفظهم الله ورعاهم، يلتزمون بهذه العادة، بل أكثر من هذا: لا يسعدون بشيء مثل سعادتهم بالوقوف على أمن الحجاج وراحتهم وسلامتهم منذ أن تطأ أقدامهم بلادنا حتى مغادرتهم سالمين غانمين، ويبذلون في سبيل هذا الغالي والنفيس، فخدمة ضيوف الرحمن ورعاية الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة تمثل لحمة رسالة بلادنا وسداها. ويكفي قادتنا فخراً أنهم تشرَّفوا بحمل أعظم لقب وأشرفه على الإطلاق (خادم الحرمين الشريفين).

وبقى الدور على الجميع للالتزام بالتعليمات التي تصدرها الجهات المعنية، التي تصل الليل بالنهار في العمل لراحة ضيوف الرحمن، وأخص هنا أولئك الذين اتخذوا الحج عادة، لاسيَّما من حجاج الداخل، إن كان من المواطنين أو الإخوة الوافدين، خاصة الذين جاؤوا بغرض الزيارة أو العمرة، فالدولة رعاها الله لا تمنع أحداً من أداء الفريضة في ظل الالتزام بالنظام حرصاُ على راحة الجميع.

فالشكر والتقدير والعرفان والامتنان لولي أمرنا، قائد قافلة خيرنا القاصدة، خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، الذي لم يدَّخر وسعاً في خدمة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، ورعاية ضيوف الرحمن، ولأخي العزيز الغالي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، رئيس مجلس الوزراء، ولي العهد القوي بالله الأمين، والشكر موصول لأخي العزيز الغالي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة، ولأخي العزيز الغالي الأمير سلمان بن سلطان بن عبد العزيز، أمير منطقة المدينة المنورة، ولأخي العزيز الغالي الأمير عبد العزيز بن سعود بن نايف، وزير الداخلية رئيس لجنة الحج العليا، ولأخي العزيز الغالي الأمير سعود بن مشعل نائب أمير منطقة مكة المكرمة. وقطعاً حبل الشكر موصول أيضاً لوزارة الحج والعمرة، ولوزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، ولرئاسة الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي، ولوزارة الدفاع، ولوزارة الحرس الوطني، ولوزارة الداخلية، ولوزارة النقل، ولأعضاء لجنة الحج العليا، ولكل المعنيين بخدمة ضيوف الرحمن من موظفين رسميين ومن متطوعين من أبناء هذه البلاد الطاهرة المباركة، وشكر خاص جداً للعين الساهرة، رجال الأمن، الذين يستميتون من أجل حفظ الأمن وخدمة ضيوف الرحمن.

وكل عام قادتنا بخير، وبلادنا في أمن وأمان، والجميع سعيد فرح مسرور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى