**الحب الدبلوماسي **

**الحب الدبلوماسي **
في عالم يفيض بالمشاعر المستهلكة، يبقى للحب النبيل مكانٌ خاصّ لا تبلغه ضوضاء الكلمات. ولا الوان التعبير والقول،
فليس كل شوقٍ يُعبّر عنه، فبعض القلوب تُحب بصمت، وتتألم بصمت، وتظلّ وفيّة لنبض خفيّ، لا تجرؤ على الإفصاح عنه. من هذا الباب يولد *الحب الدبلوماسي”
نعم إنه ذلك الحب الدبلوماسي السامي الأصيل والأنيق، الذي يُعنى باليقين العميق بالشعور الصادق والذي يغيب عن فنون التنقيب العاطفي، وملامح الضياع،
نعم إنه ذلك الحب الذي يكون حين يتوارى العشق خلف الكبرياء، وحين تتوارى السعادة خلف عقلانية الصمت، وتكامل الوعي، وحين تقترب الأنفاس الرقيقة الناعمة الباردة الهادئة خلف نبضات القلوب المتأججة اشتياقا ، يتنفس السعادة في غياب الكلمات، وفي غياب حفاوة المشاعر،هو ذلك الحب الأديب، والذي يتزيّن بالذكاء، ويتعفف بالكبرياء والسمو والتأدب،
وكما هو معلوم في كون الحب وعالمه أنّ الحب أرقى ما في الإنسان من شعور، وهو الحاجة الروحية والوجدانية، التي لا يستغني عنها، ليحل الحب الدبلوماسي مكانة عظيمة من أرقى وأندر مواقع الحب، فلا يُقاس بمدى القرب المادي الجسدي، بل بمدى الحضور القلبي والروحي، فهو ليس طاقة مصنوعة من نظرة لقاء، ولا من كلمة وعد، ولا من صمت قصة كاملة،
وليس كل حب يكون قولا، وليس كل شوقٍ يُعبّر عنه، وليس كل حب يكتب في بيت شعر أو جملة نثر ؛ ولكن هناك حب نادر الوجود لا يعيش فوق السحاب بل يعيش في آفاق النجوم اللامعة، في الأعلى بين الكواكب والأفلاك السماوية، يضيء مجرات الروح،، حب لا يتغذى على الكلمات ولا يُفصح عن نفسه حتى وإن حضرت الكلمات، هويته الوحيدة أمان الروح وسكينتها واحتواء الاخر ..
لو أردنا وصف ذلك الحب لقلنا أنه
حبٌّ يشبه الجمرة تحت الرماد تماما ، دافئة، مشتعلة، لكنها لا تُحرق… لا تُرى، كالقبس الذي أوقد منه النبي موسى، كالنور الذي في الوادي المظلم ولا يُعلم مصدره، لأنه نورٌ لا يُرى.
الحب الدبلوماسي ليس مصطلحًا سياسيًا، ولا علاقة له بالقنصليات أو المعاهدات. إنه توصيف رمزي دقيق لنمط خاص من الحب؛ حبٍّ راقٍ، صامت، لا يُفصح عن ذاته علنًا، لكنه عميق وثابت في القلب.
ويتحرك بخُطى هادئة، لا يقتحم ولا يطالب، لا يُفرط في التعلق، ولا في الانسحاب، يتنفس في الظل، ويُزهر في المسافة الآمنة بين القرب والغياب. لا يُظهر حاجته، ولا يطلب شيئا، ولايقوم على عتاب، لكنه لا ينام دون أن يشعر بوجود الآخر في ركنٍ من الروح.
لا يقوم على لوم أو ضجيج، ولا يقتات على التكرار، ولا على الحوارات العاطفية المدعمة بنفيس القول والشعر ، بل يعيش على فهمٍ عميق لا يحتاج إلى شرح. فهم طَبَعي .فهم فطري بين إنسان وانسان، في إطار .
كلاهما يعرف ما في قلب الآخر، ولا قُرب محبط، ولا جمل تقال ولا منطوق باهت “بأحبك”
عين ترى، ونفسٌ صامتة تُغلي ..
وصمت عميق يخفي ألف شعور،
ولكن غيابًا غير مبرر، كفيل بأن يُحدث اضطرابًا في العمق، لا يعترف به أحد. ولا يُري الأخر ذلك الثقب.
هما أقوى من كل المشاعر العابرة،
لكنّهما أضعف من جناح بعوضة حين يتعلق الأمر ببعضهما. يتوشح الصمت.
ضعفٌ لا يُقال، ولا يُلمح،
ضعفٌ أنيق… يتوشّح بالصمت.
“أعمق المشاعر دائماً ما تأتي في صمت.” فرجينيا وولف
ذلك حب يعيش في التفاصيل الدقيقة:
نبرة صوت، دعاءٌ خفي، نظرة خاطفة،
أو سؤالٌ عابر يخفي خلفه “أشتاق إليك”
هذا الحب لا يعرف التعبير السطحي، بل هو لغة بين السطور ،ولغة بيضاء باردة لا حروف لها ولا كلمات، ولكن لها آلية معقدة من النظم والقوانين الإنسانية كالاحترام والتقدير.
فلا مكان فيه لرسائل طويلة، بل هو حب يعيش في التفاصيل الدقيقة:
يتغذى على نبرة صوت، على إشاريات روحية غير مقصودة،
دعاءٌ خفيّ في لحظة لا يراها أحد.
يحبه ولا يقدر أن يقول ولا يستطيع أن يقدم له صورة ذلك الاجلال ؟
يبتعد عن التصريح له؛ فيخاف ما سيأتي بعد من التجاهل أو البعد .
يتحدثان بلغة الكبرياء…
لكن خلف “كيف حالك؟”
هناك ألف “أشتاق إليك”.
فالحب هو فهمك للآخر لا أن تفرض حبك عليه .
حين يُصبح الاعتزاز ستارًا للمشاعر
في هذا الحب، لا يطلب أحدهم شيئًا من الآخر،
لا اعتذار فيه، ولا تأكيد على المشاعر. لأن هذا النوع من الحب لا يقوم على المطالب، وتلبية الاحتياج؛ حب صامت ..يقوم على الإدراك العميق أن القلب اختار،
وأن الحب قائم، وأن القدر حاضر وأن الجميع لهم قمرهم ولي بدري الذي ينتصف الروح .
يقول جبران خليل جبران؛
“ليتني أستطيع أن أقول ما أشعر، ولكنّي أخاف أن تفهمني.”
الحب الدبلوماسي حب نقي، لا تشوبه الحاجة ولا تفسده الأنانية.
حب متماسك من الخارج، هش من الداخل.
قائم على التقدير، والاحترام، والمسافة الآمنة،
تلك المسافة التي لا تقطع الحبل، لكنها لا تسمح بالاقتراب المُربك.
يصف تلك الدبلوماسية العاطفية نزار قباني بقوله:
“أُحبكِ… من قال إن المحبّة تحتاج تصريحَ حبٍّ؟
أُحبكِ… صمتًا، وكأن السكوت صلاةٌ على هيئة قلب.”
إن من علامات ذلك الحب ألا يُفصح عن الحاجة، ولكن الحضور دائم في التفاصيل، يُخفي الاشتياق خلف حديث عابر ، يُحب بكرامة، فلا يتوسل قربًا، ولا يُظهر ضعفًا، يختار الصمت احترامًا، لا عجزًا، حب لا يُعبّر عنه بالكلام، بل بالصبر، وبالوقوف إلى جوارك من بعيد، دون أن تلاحظ.”
وكما أن الدبلوماسي يُتقن فنّ التوقيت، وفنّ التلميح بدل التصريح، فإن صاحب هذا الحب: يقرأ المشهد جيدًا قبل كل خطوة ولا يندفع، بل يُنسّق مشاعره بعقلٍ ناضج، ويتراجع بحكمة أكثر مما يتقدم بحماسة.
هو لا يحب أقل من غيره، بل ربما أكثر، لكنه يؤمن أن العاطفة إن لم تُضبط، تحترق.
وكثير من الشعراء والمفكرين تحدثوا عن هذا النوع من الحب دون تسميته:
قالت غادة السمان:
“أحبك بصمتٍ، لأنني أرفض أن أقتسمك مع من لا يعرفون كيف يحبون.” وقال نزار قباني:
“أخاف أن أخسرك لأني أحبك كثيرًا، وأخاف أن أقترب أكثر فينكشف ضعفي.”
وفي ظله يعيش الحنين، والحب الدبلوماسي لا يحتاج إلى إعلان، بل إلى حسّ مرهف يفهمه. هو علاقة تُبنى على الاحترام، وتُروى بالانتظار، وتكبر خلف ستار من “اللامبالاة الظاهرة”.
هو أن ترسل رسالة ثم تمحوها، وأن تفرح لنجاح من تحب في صمت، وأن تكون الظهر الذي لا يُطلب، والمأوى الذي لا يُشترط،
وفي زمن يعج بالضجيج، يبقى الحب الدبلوماسي حالة نادرة من الصفاء العاطفي، حبّ لا يُقاس بمقدار ما يُقال، بل بمقدار ما يُحتمل في الصمت. هو القوة التي تختبئ في اللين، والحضور الذي يسكن الغياب.
قد لا يُتوّج هذا الحب كما ينبغي ، لكنه يُخلَّد في القلوب، لأنه لم يُهدر في اللهفة المؤلمة …
إنه باختصار: أسمى أشكال الحب حين يكون الذكاء حارسًا، والكرامة تاجًا
وأخيراً ليس كل حبٍ عاصفٍ حقيقي، وليس كل حبٍ ظاهرٍ خالد.
أجمل أنواع الحب، ذلك الذي لا يُقال، بل يُفهم.
الذي لا يُمسك، بل يُحس.
الذي لا يُعبّر عنه صراحة، لكنّه موجود بهيبته وجلالة قدره …
يسكن بين قلبين، ويتحدث حين يصمت الجميع.
“الحب الدبلوماسي… هو أن تحمل قلبك في يدك، ولا تجرؤ أن تمدّه
د. عبدالرحمن الوعلان
معد برامج تلفزيونية وكاتب مسرحي