كُتاب الرأي

التقاعد ونهاية المطاف

 

لوقت طويل، ارتبط مفهوم التقاعد بفكرة الموت، ونهاية المطاف، وَصَفَّارَةٍ الحكم، ومرحلة الركود والخمول بعد سنوات من العمل الدؤوب، ولكن، هل هذه هي الحقيقة؟ أم أن التقاعد بوابة لعالم جديد زاخر بالإمكانيات، ورحلة مثيرة لاكتشاف ذواتنا وتحقيق أحلامنا المؤجلة؟

في الواقع، يُشْكِلُ التقاعد فصلًا جديدًا في كتاب حياتنا، وفرصة ذهبية لإعادة اكتشاف ذواتنا، وتنمية مواهبنا واستكشاف آفاق جديدة لطالما تاقت إليها أنفسنا، فبعد سنوات من العمل الطويل والمتواصل تحت وطأة المسؤوليات وضغوط الحياة، يأتي التقاعد إلينا كهدية ثمينة، وفُرصة للتحرر من قيود الرتابة والانطلاق في عالم من الإمكانيات اللانهائية.

ولعل أهم ما يميز مرحلتنا الذهبية هذه هي إمكانية تحقيق الذات بعيدًا عن ضغوط العمل وإرهاق المسؤوليات، فقد حان الوقت لإيلاء الاهتمام بشغفنا الذي طالما أُجّل، وإطلاق العنان لإبداعنا الذي كُبِت لوقت طويل، فلمَ لا تُصبح هذه المرحلة انطلاقة جديدة لنا نحو عالم الفنون، من كتابة مقالات وكتب، ورسم ونحت وموسيقى؟ أو إشباع نَهَمْنَا في القراءة واكتشاف عوالم جديدة من خلال قراءة الكتب المختلفة والقصص والروايات؟

ولا تقتصر فوائد التقاعد على تنمية القدرات الشخصية فقط، بل تمتد لتشمل العلاقات الاجتماعية أيضًا، فبعد سنوات من الانشغال بالعمل، يُصبح هناك متسع من الوقت لِتَمْتِينِ روابط الصداقة وقضاء أوقات أكثر مع العائلة والأحباب، كما تُتيح هذه المرحلة الفرصة للتطوع، وخدمة المجتمع، مما يُضفي على حياتنا معنى أعمق، ويُسهم في نشر الخير والسعادة بين الناس.

ولكن لكي تُصبح مرحلة تقاعدنا حقًا فصلًا مُشرقًا من فصول حياتنا، لا بد من التخطيط الجيد والتحضير لهذه المرحلة مُسبقًا، فينبغي للشخص أن يُحدد أهدافه وطموحاته لهذه المرحلة، ويُخطط لكيفية استثمار وقته وطاقته بما يُحقق له السعادة والرضا عن نفسه، ويحافظ على نشاطه البدني، ويمارس الرياضة بانتظام، فهذا يُساعده على تحسين صحته الجسدية والنفسية، وَاعْذُرُونِي إن كنت أنصحكم بالمشي بحكم أني “دبه” ولا أمشي.

عموما لا ينبغي أن ننظر إلى التقاعد كنهاية المطاف، بل أن ننظر إليه كفرصة جديدة للبدء من جديد، لاكتشاف عالم زاخر بالتجارب المُثيرة والفرص الذهبية، فالتقاعد هو بداية لرحلة جديدة، رحلة لاكتشاف الذات وتحقيق الأحلام المؤجلة، رحلة نحو حياة أكثر إشراقًا وسعادة، فبدلاً من التقوقع والانغماس في ذكريات أيامنا الماضية، فلنُشرّع للإبداع أبواب أرواحنا للريح العاتية، ولننطلق بكل حماس نحو آفاق جديدة تُثري حياتنا، وتُضفي عليها ألوانًا زاهية تحيط بها من كل مكان.

ولننظر إلى التحديات التي تواجهنا في هذه المرحلة كفرص للنمو والتعلم، ولنُدرك أن التقدم في العمر ليس عائقًا أمام تحقيق طموحاتنا وتنمية مهاراتنا، فالعقل البشري قادر على التطور والتجدد في كل مرحلة من مراحل الحياة، وليس هناك حد لعملية التعلم واكتساب المعارف، أو سن معين يعد نهاية المطاف.

ولنُشجع أنفسنا على خوض تجارب جديدة، وتعلم مهارات مختلفة، واكتشاف عوالم لم نكن نتخيل وجودها من قبل في دواخلنا، فربما نكتشف في داخلنا مواهب كامنة لم تُتح لها الفرصة للظهور، أو ربما نُصبح مُبدعين في مجالات لم نكن نتوقع التميز فيها.

ولنحتفل بهذه المرحلة من حياتنا بما تحمله من جمال وروعة، ولنجعلها فصلًا مُشرقًا مليئًا بالحياة والحيوية والإنجاز، ولنُثبت للجميع أن التقاعد ليس نهاية المطاف، بل هو بداية جديدة لرحلة شيّقة نحو عالم من الإمكانيات اللامحدودة.
عالم يُتيح لنا التحرر من قيود الماضي، وننطلق بأجنحة الحرية نحو مستقبل واعد مُشرق، فالتقاعد فرصة ثانية لنعيش حياتنا بكل ما تُتيحه من خيارات وتجارب متعددة، لِنُعيد اكتشاف أنفسنا، ونُطلق العنان لطاقاتنا الإبداعية التي لطالما حبسناها في أسر الرتابة، والمجاملات، وضغوط العمل.

ونُغتنم هذه المرحلة لِنُنمّي علاقاتنا الاجتماعية، ونُقوي روابطنا مع عوائلنا وأصدقاءنا، ونُشارك في أنشطة مجتمعية تُثري حياتنا، وتُسهم في خدمة مجتمعنا. ونجعل من التقاعد مرحلة للعطاء وإسعاد الآخرين، ونترك بصمة إيجابية في المجتمع تُبقى بعد رحيلنا.

ولنُدرك أن التقاعد ليس بالتأكيد فترة للتكاسل والخمول، بل هي مرحلة لإعادة شحن طاقاتنا وتوجيهها نحو أهداف جديدة تُضفي على حياتنا مَعَانِي مختلفة، ونُخطط لهذه المرحلة بعناية وفطنة، ونُحدد أولوياتنا، ونُنظم أوقاتنا بما يُتيح لنا تحقيق أقصى استفادة من هذه الفرصة الذهبية التي يتمناها الكثير.

وختامًا، فلنُؤمن بأنفسنا وبقدراتنا على تحقيق أحلامنا في هذه المرحلة المهمة من حياتنا، ونُطلق لإبداعاتنا العنان، ونُثبت للجميع أن التقاعد ليست نهاية المطاف، ولا هو للجلوس في الركن البعيد الهادي ننتظر قطار الموت، بل هو بداية جديدة لرحلة حافلة بالسعادة والإنجاز.

محمد الفريدي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى