النفوذ لا يُورث.. بل يُنتزع

النفوذ لا يُورث.. بل يُنتزع
في عالم لا تعترف خرائطه بالضعفاء، لم يعد النفوذ مسألة إرث أو تقليد سياسي، بل أصبح نتاجاً لإرادة قوية، وحكمة استراتيجية، وقدرة على فرض الحضور في أصعب الظروف وأكثرها تقلباً الدول التي تعتمد على التاريخ فقط، وتعيش على مجد مضى دون أن تواكب تحولات الواقع، سرعان ما تتراجع في سلّم التأثير، مهما بلغ حجمها أو مكانتها يوماً ما
اليوم، النفوذ لا يُمنح كمنصب، ولا يُوزع كحصص دبلوماسية، بل يُنتزع عبر الفعل الذكي والموقف الثابت والموقع الاستراتيجي من يملك القرار المستقل، ويُحسن قراءة المتغيرات، هو من يملك حق الجلوس على الطاولة، لا كضيف، بل كصاحب قرار
لقد تغيرت قواعد اللعبة لم تعد التحالفات التقليدية وحدها كافية، ولم تعد الشعارات العاطفية تُقنع أحداً نحن نعيش في زمن المصالح الصرفة، والتوازنات المعقدة، حيث البقاء للأكثر فهماً للأولويات، والأقدر على المناورة دون ضجيج، والمتمسك بثوابته دون أن يفقد مرونته
وفي الشرق الأوسط، لم يعد النفوذ مرهوناً بالحجم الجغرافي أو عدد السكان، بل بكفاءة إدارة التحولات بعض الدول استطاعت أن تنتقل من الهامش إلى التأثير بفضل سياسة خارجية ذكية، ورؤية واقعية، وقرار سيادي مستقل والمملكة العربية السعودية نموذج بارز لذلك، حيث أصبحت لاعباً رئيسياً في ملفات الطاقة، ووسيطاً فاعلاً في النزاعات، ومركزاً لقرارات إقليمية لا تُتخذ إلا بوجودها.
تشهد منطقتنا تقلبات حادة في موازين القوى، وتحولات مفصلية في ملامح النفوذ الإقليمي والدولي من كان بالأمس حليفاً ثابتاً، قد يتحول اليوم إلى خصم خفي أو شريك مكلف ومن ظنّ أنه محصَّن بالتاريخ أو الجغرافيا، تفاجأ بأن النفوذ لا يعترف إلا بلغة الأرقام والتأثير الفعلي على الأرض.
إن الواقعية السياسية ليست خروجاً عن المبادئ، بل هي وسيلة لحمايتها من يظن أن الثبات يعني الجمود، يضيع في حسابات الحاضر والمستقبل الذكاء السياسي الحقيقي يكمن في إدارة التوازنات، لا في الاصطفاف المطلق وفي الحفاظ على الشراكات دون التنازل عن السيادة.
لقد أثبتت تجارب كثيرة أن التردد هو العدو الأول للنفوذ، وأن من لا يُجيد اختيار اللحظة المناسبة للتحرك، سيتحرك حين لا تعود للحركة قيمة وهذا ما يُميز الدول التي تعرف قدر نفسها، وتعرف متى تتكلم ومتى تلتزم الصمت، ومتى ترفع صوتها بثقة دون أن تستجدي أحداً .
الختام:
في عالم مضطرب لا يحترم إلا من يعرف أين يقف ومتى يتحرك، لا تنتظر من أحد أن يمنحك نفوذاً ، ولا تراهن على العاطفة في ميدان تُديره المصالح اصنع مكانك بوعيك، وقوتك، واستقلال قرارك، حتى لو اضطررت أن تمشي وحدك، فالمكان على القمة لا يتسع إلا للقادرين.
بقلم: الأستاذ تركي عبدالرحمن البلادي