التجربة الحسية والصراع النفسي في “عدوي اللدود”

التجربة الحسية والصراع النفسي في “عدوي اللدود”
الدكتورة سارة الأزوري
تعد قصة “عدوي اللدود” للكاتبة فاطمة سعد الغامدي واحدة من الأعمال الأدبية التي تتميز بعمقها الرمزي والتجريبي، حيث يندمج فيها الواقع مع الخيال في محاولة لإبراز التوترات الداخلية التي يواجهها الإنسان في رحلته الذاتية. ليصبح الظل أكثر من مجرد مكون بصرى مادي، بل يتجسد ككيان مستقل يُرافق الشخصية الرئيسية، ويعكس صراعاتها النفسية، ليكون هو العدو الأعمق في النفس البشرية. فهو في هذه القصة ليس فقط انعكاسًا للذات، بل هو كائن حي يطارد البطلة ويعكس قلقها وترددها.
تقود القصة القارئ إلى عالم يتداخل فيه الواقع مع الخيال بطريقة فنية مرهفة، حيث تُظهر المشاهد المكانية والزمانية تباينًا واضحًا. على سبيل المثال، يبرز الاختلاف بين “المول” و”القرية” كصور متناقضة توضح هذا التداخل بين الحضور المادي والتجربة النفسية العميقة. يمثل “المول” المكان الذي يعج بالحركة والضجيج، وهو رمز للعالم الخارجي المملوء بالاضطراب والضغوط النفسية، في حين أن “القرية” تظل بمثابة ملاذ للهدوء النفسي الذي تفتقده الشخصية الرئيسية، بل هي أيضًا مكان رمزي يعكس التوازن المفقود في حياتها.
كذلك، يقدم السرد مشهدًا مرئيًا غنيًا بالصور الحسية التي تلامس القارئ وتعزز من التأثير النفسي للشخصية. على سبيل المثال، ملاحقة الظل للبطلة يعكس التوتر المستمر في نفسها، حيث يتنقل بين صورتين: صورة للظل المطمئن الذي كان يرافقها منذ البداية، ثم صورة للظل كخصم، يتسلل ببطء ليصبح تهديدًا حقيقيًا على حياتها النفسية.تظهر الطبيعة بعناصرها المختلفة مثل الفراشات والكلاب والديوك، التي
تصبح مرآة للحالة النفسية المضطربة، مُبرزةً تكرار النزاع الداخلي.
تتجسد الثنائية بين الواقع والخيال بشكل مميز في الأسلوب السردي الذي تستخدمه الكاتبة، حيث يمتزج البصر باللمس والسمع، فتتكرر الإشارات الحسية كالملمس الناعم لزهرة اللوز التي تشدها البطلة بين أصابعها، أو ملمس يدها المشدودة التي تبدأ في الاسترخاء. هذه الأوصاف لا تقدم فقط إحساسًا بالحركة، بل هي أيضًا تتناغم مع مشاعر البطلة المتناقضة، بين الاستسلام والمقاومة.
بالإضافة إلى ذلك، تظهر قوة النمط السمعي في السرد، حيث يتردد صوت أم كلثوم وهي تغني “يا فؤادي رحم الله الهوى” في الخلفية، ويكون لذلك تأثير كبير في تعميق الأثر النفسي على البطلة، إذ تمثل هذه الأغنية الصوت الذي يرافق كل لحظة من لحظات التوتر والخوف في حياتها. هذا التوظيف للأصوات يعزز من كثافة المشهد ويزيد من تأثيره على القارئ، الذي يصبح منغمسًا في كل التفاصيل الحسية.
التشوق هو أحد المحركات الجوهرية في القصة، فالبطلة تسعى بوضوح للتحرر من الظل، لكن هذا التحرر لا يعني الانفصال التام عن الماضي أو الخلاص التام من الذات، بل هو محاولة لتهدئة الصراع الداخلي الذي لا ينتهي. بين طموحها للخلاص وارتباطها اللاواعي بالماضي،فتبقى عالقة في دوامة لا تنتهي من الحيرة والتوتر.
فالنهاية المفتوحة للقصة تؤكد على أن هذا الصراع النفسي مستمر، وأن الخلاص ليس أمرًا سهل المنال.
تتسم القصة أيضًا باستخدام مكثف للاستعارات التي تساهم في إبراز التحولات النفسية الحادة للبطلة. على سبيل المثال، يتغير الظل في القصة من كونه “معانقًا” إلى “خصم متلصص”، في إشارة إلى التوتر المتزايد بين الشخص والظروف المحيطة به. هذا التغيير في العلاقة بين البطلة وظلها لا يقتصر على كونه تحولًا داخليًا فحسب، بل يعكس علاقة أكثر تعقيدًا مع الزمان والمكان أيضًا. في هذا السياق، يصبح الماضي بالنسبة للبطلة عبئًا ثقيلًا لا يمكن التخلص منه، بينما المستقبل يظهر بوضوح على أنه غامض وضبابي.
الصور والاستعارات البصرية التي تستخدمها الغامدي لا تقتصر فقط على إضافة عمق للرمزية، بل تخلق أيضًا تجربة حسية متكاملة، تُدخل القارئ في عمق الصراع النفسي للبطلة، وتجعله يعيش التوترات ذاتها. فيجد القارئ نفسه يتنقل بين المشاعر المتضاربة، محاطًا بأحاسيس ملموسة لا يمكن تجاهلها.
القصة تفتح أمام القارئ مساحة واسعة للتأويل والتفكير، لأنها لا تقدم إجابات قاطعة حول مصير البطلة، بل تدفعه للتساؤل المستمر: هل الظل في النهاية يمثل هروبًا فعليًا، أم أنه بداية لمصالحة ذاتية؟ في النهاية، تظل القصة بمثابة شهادة على صراع الإنسان مع ذاته الداخلية، حيث يتحول الظل من مجرد انعكاس فيزيائي إلى رمز معقد لهوية الإنسان، وذاكرته، وأزماته النفسية.
القصة تفتح أمام القارئ مساحة واسعة للتأويل والتفكير، لأنها لا تقدم إجابات قاطعة حول مصير البطلة، بل تدفعه للتساؤل المستمر: هل الظل في النهاية يمثل هروبًا فعليًا، أم أنه بداية لمصالحة ذاتية؟
أو قدتعكس النهاية المفتوحة الأشخاص المتطفلين الذين التصقوا بالبطلة ليس حبا بل من باب التلصص على حياتها،وما إن أتكشفت حقيقتهم حتى تبخروا وتلاشوا…
في النهاية، تظل القصة بمثابة شهادة على صراع الإنسان مع ذاته الداخلية، حيث يتحول الظل من مجرد انعكاس فيزيائي إلى رمز معقد لهوية الإنسان، وذاكرته، وأزماته النفسية.
كاتبة رأي