كُتاب الرأي
البطاقة الوظيفية لا تلخّص الإنسان
البطاقة الوظيفية لا تلخّص الإنسان
حين يسألك الناس عن وظيفتك، قد يبدو السؤال بسيطًا في ظاهره، لكنه يخفي وراءه معيارًا اجتماعيًا متجذرًا؛ معيارًا يحاول أن يضعك في خانة محددة من الاحترام والتقدير. كأن وظيفة الإنسان بطاقة تعريف تحدد قيمته في أعين الآخرين، لا مجرد مصدر رزق أو وسيلة عطاء.
لكن،هل حقًا يمكن للوظيفة أن تختزل قيمة الإنسان؟
الوظائف تتغير، المناصب تتبدل، والألقاب تزول مع تقلب الأيام، بينما يبقى الأثر الذي يصنعه المرء بما يحمله من مبادئ وأخلاق وصدق في التعامل.
إنّ صاحب الخلق الرفيع قد يحظى بمكانة في قلوب الناس أعظم بكثير من صاحب منصب مرموق يفتقد للإنسانية.
المجتمع في كثير من الأحيان يسقط في فخ المظاهر؛ فيُقدَّر الطبيب أكثر من المعلم، والمدير أكثر من الموظف البسيط، مع أن كل مهنة تحمل في داخلها قيمة وأهمية لا تقل عن الأخرى. فما فائدة طبيب لا يحسن التعامل مع مرضاه؟ وما قيمة منصب رفيع إن كان صاحبه يفتقد لأبسط مبادئ العدل والرحمة؟
الاحترام الذي يُبنى على وظيفة لا يدوم، لأنه احترام مشروط. أما الاحترام الذي يستند إلى الخلق والكرامة، فهو ميراث يبقى في الذاكرة حتى بعد أن يرحل صاحبه. لذلك، حين يُسأل الإنسان عن وظيفته، ليت المجتمع يتعلم أن يضيف سؤالًا آخر: “ومن أنت حقًا؟”
هذه نظرة شائعة في المجتمع، حيث يُربط الاحترام غالبًا بالمسمى الوظيفي أو المنصب الذي يشغله الإنسان، وكأن قيمة الفرد تختزل فيما يعمل، لا فيما هو عليه من خلقٍ وعلم وتجربة.
إن الاحترام الحقيقي لا يُمنح بناءً على مسمى وظيفي، بل يُكسب من خلال المعاملة، من خلال صدق الكلمة ونقاء القلب، من خلال أثر الإنسان في مجتمعه مهما صغرت وظيفته أو كبرت. العامل الذي يؤدي عمله بأمانة يستحق التقدير أكثر من مسؤول يفرط في أمانته.
حين نربط الكرامة بالوظيفة، فإننا نحكم على الناس بسطحية، ونفقد القدرة على رؤية الجوهر. فالإنسان ليس مجرد وظيفة، بل هو منظومة من قيم ومبادئ وتجارب وحكايات، بعضها يسطع في الضوء وبعضها يتوارى في الظل، لكنه يظل أثمن بكثير من بطاقة عمل أو لقب إداري.
فلنسأل أنفسنا: هل نريد أن يُذكر اسمنا بعد رحيلنا من وظيفتنا ؟، أم بالإنسانية وما تركناه من أثر طيب في نفوس الآخرين؟ في كل لقاء جديد، غالبًا ما يتصدر السؤال التقليدي: “ماذا تعمل؟”، وكأن الإجابة عنه كفيلة برسم ملامح شخصيتك وتحديد مقدار الاحترام الذي تستحقه. المجتمع، للأسف، اعتاد أن يضع الإنسان في خانةٍ مرتبطة بمسماه الوظيفي، فيُحترم الطبيب (كما ورد معنا في بداية النص) أكثر من المعلّم، ويُبجَّل المدير أكبر من العامل البسيط، بينما يغيب عن الذهن أن المهنة أداة، وليست مقياسًا للكرامة أو قيمة الفرد.
ينبغي معرفة ذلك جيدًا، أنّ الوظائف بطبيعتها متقلبة: اليوم قد تحمل منصبًا رفيعًا، وغدًا قد تفقده بقرار أو ظرف طارئ. لكن ما يبقى بعد كل ذلك ليس المنصب ولا اللقب، بل الأثر الذي تركته
2 / 2
في الناس. فمن يربط احترامه بمنصبه فقط، يكتشف عاجلًا أن احترامه زائل بزوال الكرسي. أما من يجعل الاحترام نابعًا من سلوكه وأخلاقه، فإنه يرسّخ مكانته في القلوب، مهما تغيّرت الظروف.
المفارقة أن المهن جميعها، مهما اختلفت، تقوم على التكامل. فكيف نُعلي من شأن مهنة على حساب أخرى؟ إن المعلم الذي يفتح أبواب المعرفة، والعامل الذي يحافظ على نظافة الشوارع، والطبيب الذي يعالج المرضى، كلهم يساهمون في بناء المجتمع، لكن نظرتنا المختزلة هي التي توزع الاحترام بانتقائية، بدلًا من أن تمنحه للجميع بقدر إنسانيتهم وإخلاصهم.
القضية هنا ليست مجرد جدل اجتماعي، بل سؤال فلسفي أعمق: ما الذي يمنح الإنسان قيمته؟ هل هو المسمى الوظيفي المطبوع على بطاقة التعريف، أم هو جوهره الإنساني بما يحمله من صدق، ونزاهة، وعطاء؟ الجواب لا يحتاج إلى كثير من التفكير: القيم أثبت وأبقى من أي لقب عابر.
لكن الحقيقة أن الوظيفة مجرد جزء من هوية الإنسان وليست هويته كلها. قد يكون عاملٌ بسيط أكثر نبلًا واحترامًا من صاحب منصب رفيع فاقد للقيم. الاحترام الحقيقي يُبنى على الخلق، الكرامة، الأثر الذي يتركه الإنسان، لا على عنوان وظيفي يُذكر في بطاقة أو ورق رسمي.
إنّ أجمل ما يمكن أن نفعله هو أن نكسر هذه النظرة النمطية، ونجعل الاحترام مرتبطًا بالإنسان ذاته، لا بمهنته.
آخر الكلام
الوظيفة وسيلة وليست غاية، عنوانٌ عابر لا يحدد قدر الإنسان ولا يرسم صورته الكاملة. الاحترام الحق يُبنى على الخلق والعطاء، لا على الكراسي والمكاتب. فليكن ميزاننا في تقييم الناس قائمًا على إنسانيتهم، لا على مسمّاهم الوظيفي.
الوظائف بطبيعتها متقلبة: اليوم قد تحمل منصبًا رفيعًا، وغدًا قد تفقده بقرار أو ظرف طارئ. لكن ما يبقى بعد كل ذلك ليس المنصب ولا اللقب، بل الأثر الذي تركته في الناس. فمن يربط احترامه بمنصبه فقط، يكتشف عاجلًا أن احترامه زائل بزوال الكرسي. أما من يجعل الاحترام نابعًا من سلوكه وأخلاقه، فإنه يرسّخ مكانته في القلوب، مهما تغيّرت الظروف.
الاحترام الذي يُبنى على وظيفة لا يدوم، لأنه احترام مشروط. أما الاحترام الذي يستند إلى الخلق والكرامة، فهو ميراث يبقى في الذاكرة حتى بعد أن يرحل صاحبه. لذلك، حين يُسأل الإنسان عن وظيفته، ليت المجتمع يتعلم أن يضيف سؤالًا آخر: “ومن أنت حقًا؟”

