كُتاب الرأي

لغة الاهتمام

لغة الاهتمام

فيصل الكثيري 

يُقال في الأمثال: ((النفس مولعة بحبّ من أحسن إليها)). حكمة صغيرة، لكنّها تكشف سرا عميقا في حياة البشر؛ فكل إنسان –رجلا كان أو امرأة– لا يشبع من لمسة عناية، ولا يملّ من كلمة تقدير. الطفل يصرخ ويتمسّك بثوب أمه، أمّا الكبير فيطلب الاهتمام بطرق أهدأ؛ بنظرة دافئة أو كلمة ثناء حانية، أو إنصات صادق يُسكب في القلب سكينته.
الطفل والكبير يشربان من نبعٍ واحد؛ غير أنّ الطفل يصرّح بدموعه، والكبير يبوح بصمته كما يبوح الغيم المكظوم قبل المطر. هو نفسه العطش في قلوبٍ مختلفة، لا يرتوي إلّا بالاعتراف والالتفات، كما لا تكتمل الغيمة إلّا إذا فاضت بالمطر. وقد أدرك الحكماء هذا المعنى منذ القدم. قال أكثم بن صيفي: ((قلوب الرجال وحشيّة، فمن تألّفها أقبلت عليه)). القلوب كالكائن البريّ؛ تنفر من القسوة وتطمئن للّطف. لا تُروض بالقوة، الرفق وحده سبيلها. وروي عن قسّ بن ساعدة قوله: ((اجتمعوا واسمعوا، وإذا سمعتم فانتفعوا)). فالإصغاء في ذاته صورة من صور الاهتمام، وهو جسرٌ تعبر به النفس من وحشتها إلى أنسها، كما تعبر الطيور النهر إلى ضفّتها الأخرى. وفي حياتنا أمثلة لا تُحصى. ذلك الرجل الذي يعمل في صمتٍ طويل، لا يطلب ذهبا ولا منصبا، يكفيه أن يسمع كلمة ((أحسنت)). فإذا سمعها انبسطت همّته كغصن سُقي بماء بعد جدب، وإذا حُرمها ذبل كما يذبل الغرس إذا حُجب عنه المطر. وتلك المرأة التي تسهر على بيتها، قد تغنيها عن كلّ هدية عبارة صادقة: ((ما قصّرتِ)). كلمة صغيرة .. لكنها تفتح قلبها كما تتفتّح أزهار الحقول لأول خيوط الفجر.
الاهتمام إذن لغة مشتركة لا تحتاج إلى ترجمان. وكما يحتاج الجسد إلى نسمة هواء وماء نقيّ، تحتاج النفس إلى الكلمة الطيبة. قال النبي عليه السلام: ((الكلمة الطيبة صدقة)). هي همسة خافتة للآذان، مقيمة في القلب؛ تسري في العروق، تلملم الشروخ الخفيّة، وتضيء مواضع معتمة لا تدركها العيون. قد تختلف مظاهره؛ الرجل يريده في صورة تقدير واحترام، والمرأة في صورة حنان وعاطفة، لكنّ الجوهر واحد: أن يشعر الإنسان أنّه مرئيّ، وأن وجوده لم يمرّ دون أثر. فالاعتراف بالآخر أبسط صور العدل، وهو ما يجعل الحياة قابلة للاحتمال.
أيّها القارئ الكريم، ها أنت تمارس هذه اللغة الآن؛ منحتني لحظة من وقتك، وجعلت كلماتي تحيا في عينيك. فإن نسيتَ كلّ ما قلتُ، فاذكر هذا: أنّي دعوت لك في سرّي لأنّك اهتممت بي وأنا لا أعرفك، وقلتُ في نفسي: ما أسعدني بقارئٍ مثلك. ولتكن كلمتي هذه لك مثل نهر صغير يروي عطشك الخفي؛ فإذا شربت منه، فاذكر أنّي شكرتك أولا، وأثنيت عليك كما لم أفعل مع غيرك.

كاتب رأي 

فيصل مرعي الكثيري

أديب وكاتب رأي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى