كُتاب الرأي

الإغتراب الصغير

الإغتراب الصغير

رؤى مصطفى

الإنسان منذُ ولادته ليس مجرد جسد يبحث عن البقاء، بل هو كائن يتكون من ذاكرة المكان وألفة المحيط وإيقاع العادات اليومية.

الطفل على وجه الخصوص يتنفس الحياة من خلال تفاصيل صغيرة رائحة غرفته، طريقه المعتاد إلى المدرسة، وجوه أصدقائه، وحتى ملامح المعلمة التي ترتسم في وعيه كصورة للأمان.

وعندما يُنتزع من هذا العالم فجأة بانتقال الأسرة إلى منطقة جديدة، أو بتغيير المدرسة فإنه يعيش اغترابًا صغيرًا، لكنه في عمقه يوازي الفلسفة الكبرى للاغتراب التي تحدث عنها المفكرون.

فالطفل هنا لا يفقد فقط بيتًا أو فصلًا دراسيًا، بل يفقد خريطة وجدانية كان يحدد من خلالها معنى وجوده.

الفلاسفة يؤكدون أن الهوية ليست ثابتة، بل هي نتاج التفاعل المستمر مع المكان والآخرين.

ومن هنا يصبح الانتقال اختبارًا وجوديًا للطفل؛ إما أن يجد من يحتضنه ويعيد تشكيل توازنه النفسي، وإما أن يترك وحيدًا في مواجهة فراغات جديدة لم يتعلم بعد كيف يملؤها.

المؤسف أن بعض المعلمات يتجاهلن هذه الحقيقة الجوهرية، فيتعاملن مع الطالب كأنه أداة قابلة للبرمجة؛ ينسين أن الطفل ليس مجرد صفحة بيضاء نكتب عليها، بل هو نص قائم بذاته، مليء بالتجارب الصغيرة التي لا تُمحى لمجرد أنه “انتقل” أو “عاد من إجازة”.
إن إنكار هذا البُعد الوجودي يقتل في الطفل أول بذرة للثقة والانتماء.

إن التربية ليست تلقينًا، بل مرافقة في رحلة الوجود. وعلى المعلمة الواعية أن تدرك أن الكلمة اللطيفة، والابتسامة الأولى، والاحتواء في اللحظة الحرجة، قد تكون أعظم درس يظل محفورًا في ذاكرة الطفل، أكثر من أي قاعدة نحوية أو مسألة حسابية.

إننا حين نفكر في الطفل ككائن فلسفي صغير، ندرك أن كل انتقال يعيشه هو صورة مصغرة من انتقالاتنا الكبرى في الحياة.

ومن واجبنا أن نكون له سندًا في هذه اللحظات، نفتح له نوافذ الطمأنينة بدل أن نزيد من جدران العزلة.

فالطفولة لا تحتاج إلى صرامة بقدر ما تحتاج إلى رحمة، ولا إلى أوامر بقدر ما تحتاج إلى وعي بأن الاحتواء هو أسمى أشكال التربية🕊️

كاتبة رأي

 

رؤى مصطفي

كاتبة رأي ومستشارة إعلامية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى