كُتاب الرأي
الإعجاز القرآني في ترابط معاني الكلمات
سويعد الصبحي
الإعجاز القرآني في ترابط معاني الكلمات
إنّ من أعظم وجوه الإعجاز في القرآن الكريم ذلك النسيج المتماسك والوَشْي المتناسق بين ألفاظه ومعانيه والذي يشهد له العارفون ويخشع له المتدبّرون.
فآياته كالعِقْد المنظوم لا تجد فيه خللاً ولا فُرجة وكلّ لفظ فيه موضوعٌ في موضعه وكل معنى مشدودٌ إلى ما قبله وما بعده بخيط من الحكمة والبيان.
إنه ترابط المعاني ذلك الوَشْجُ البياني العجيب الذي يجعل من الكلمة جذرًا ومن الجملة فرعًا ومن السياق بستانًا تثمر فيه المعاني وتتفتح فيه الأسرار.
هو ترابط لا يكتفي بالتجاور اللفظي بل يمتد إلى التلاحم المفهومي والتكامل البلاغي حتى ليظن القارئ أن السورة نَفَسٌ واحد وأن الآيات قلبٌ واحد ينبض بمعانٍ متصلة وأهدافٍ متناسقة.
فالقرآن الكريم لا يُكرر الألفاظ عبثًا ولا يعيد العبارات اعتباطًا بل كل تكرار فيه له معنى وكل تقديم وتأخير له مغزى وكل لفظ مختار له وزنٌ في ميزان البلاغة والبيان.
إن قيل: (فاسعوا إلى ذكر الله) كان السعي هنا هو التشمير والجد وإن قيل: (فامشوا في مناكبها) كان المشي هو الترفق والتدرج.
وهذا من إحكام التعبير ودقة التصوير التي لا تكون إلا في كلام العليم الخبير.
ومن عجيب الترابط أن تختم الآية بحكمةٍ تمهّد لبداية الآية التي تليها وكأنّ المعنى يسير على سلّم من نور لا يقطعه انقطاع ولا يفسده اضطراب.
وإن تأمّلت أسماء الله الحسنى في خواتيم الآيات وجدتَها تُختار بعناية لتخدم السياق وتُضيء المعنى فـ (غفور رحيم) تأتي حيث الرحمة مطلوبة و (عزيز حكيم) حيث القوة مع الحكمة مأمورة.
أما في السور فحدّث ولا حرج.
ترى افتتاح السورة تمهيدًا لختامها وموضوعها كأنه نهرٌ يصبّ في بحيرة واحدة مهما تفرعت الجداول. ففي سورة (الرحمن) تكرار الآية (فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان) ليس تكرارًا بل هو ترسيخ يُوقِظ القلب الغافل ويُوقّع على سمع المتدبر توقيعًا لا يُنسى.
وما أجمل أن نذكر السجع والجناس وقد امتلأ بهما القرآن زينةً لا تزاحم البيان بل تعضده وتزيده بهاءً. فتراه يقول:
(والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان)
فانظر إلى السجع الذي أضفى على المعنى رونقًا والجناس الذي زاد في الوقع إيقاعًا دون أن يُخرج اللفظ عن دلالته أو يُعكّر صفو المعنى.
القرآن كتابٌ تُبهر فيه العقول قبل العيون وتُسحر فيه الأرواح قبل الأسماع.
كتابٌ لا تنقضي عجائبه ولا تَخْلَقُ جدّته ولا يَمَلُّ سامعوه لأن فيه سرًّا فوق الألفاظ وحكمةً تتجاوز المعاني وروحًا من أمر الله تهدي من شاء إلى سواء السبيل.
فيا من تهوى البيان وتغرم بالجَمال خذ من القرآن زادك واملأ من بيانه وِعاءك فإن فيه كنوزًا لا تنفد وبدائع لا تحدّ وإنه والله كما قال ربّه:
(وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميد.)

