الإسلام بين السجون والمنابر المفتوحة

محمد الفريدي
الإسلام بين السجون والمنابر المفتوحة
في إحدى الحدائق العامة بأوروبا، وبينما كنت أستمتع بهدوء المكان، اقترب مني شاب ثلاثيني وقد ارتسمت على وجهه دهشة ممزوجة بالحنين.
أخبرني أنه سمع صوتا مألوفا بلغة قلّما يستخدمها منذ أن غادر وطنه.
كان ذلك الصوت صوت طفل صغير يتلو آيات من القرآن الكريم بإتقان مؤثر.
اقترب الشاب من الطفل بدافع الفضول، ليكتشف أنه ينتمي إلى عائلة مهاجرة منذ زمن بعيد من إحدى الدول العربية.
تحدث إليه والده مطولا، وروى له كيف أتاح لهم العيش في أوروبا فرصة لفهم الإسلام بعيدا عن الصيغ الرسمية الجامدة، وكيف تحرروا من الخطابات الموجهة التي طالما صادرت عقولهم في أوطانهم، وقال له بكل أدب: لقد عرفنا هنا دينا يمنحنا الحرية لنفكر، لا ليسجننا داخل أسوار الطاعة العمياء.
كانت تلك اللحظة العابرة، بالنسبة لي، أكثر من مجرد مشهد إنساني.
كانت مرآة لتحول عميق يعيشه المسلمون في الغرب، وصورة مكثفة لصراع طويل بين الهوية العربية والانبهار بالحضارة الغربية، بين الدين كقيمة حية، والدين كمجموعة طقوس مفروضة عليهم بالقوة، بين القمع والتحرر.
وكان السؤال الأكبر الذي يلاحقهم في كل تفاصيل حياتهم: كيف نكون أنفسنا دون أن نفقد ما نحن عليه؟
منذ أواخر القرن التاسع عشر، حين خرج العرب الأوائل إلى الغرب، حملوا معهم لهجاتهم وذكرياتهم ودينهم، ولكنهم صُدموا بحضارة لا تشبه عالمهم.
فبقي معظمهم على هامش المجتمعات الغربية الجديدة، لا هم اندمجوا فيها، ولا حافظوا على جذورهم كما ينبغي.
حتى الذين ذهبوا للدراسة – أمثال رفاعة الطهطاوي وطه حسين – عادوا بخطابات تتراوح بين الانبهار والتوفيق، وبين الانطواء والانعزال.
وهناك من خلع عباءته وعمامته، وبحث له عن هوية جديدة في عالم لا يعرف الوسطية.
رسم الغرب ملامح تلك المرحلة بذكاء؛ فبينما كان يرفع شعار “تحرير العرب من الخلافة العثمانية”، قسّم المنطقة، واستعمرها استعمارا مباشرا، ونهب مقدّراتها بنهج ممنهج.
ولا نزال حتى اليوم نعيش تداعيات تلك الحقبة بكل ما خلّفته من جراح وهوية مأزومة.
رغم إخفاقات الماضي، جاءت تحولات القرن الحادي والعشرين لتمنح التجربة الإسلامية في الغرب وجها مختلفا.
فالمسلمون في الغرب لم يعودوا مهمشين أو أميين، بل باتوا جزءا من نسيج المجتمع الأوروبي، يتحدثون لغته، ويشاركون في بناء مؤسساته، ويعيدون فهم دينهم بعيدا عن التسييس والرقابة.
إسلام الغرب اليوم أكثر هدوءا وعمقا وتأثيرا من كثير من نماذجه في الشرق، لأنه لا يُفرض عليهم من أعلى، بل ينبع من حاجاتهم وأسئلتهم الذاتية.
لا يُختزل في طقوس شعائرية يومية وسنوية، بل يُمارس بحرية وعن قناعة كخيار ذاتي يُعاش كل يوم على مدار الساعة.
مشاهد صلاة العيد التي تملأ الساحات الأوروبية، والزيجات التي تتجاوز الحواجز العرقية، هي مجرد أمثلة على إسلام أكثر نضجا ومرونة؛ إسلام ينفتح على الآخرين بدلا من أن يُقصيهم، ويحتفي بالتنوع بدلا من أن يخشاه.
في المقابل، لا تزال بعض الأنظمة العربية تحاصر الإسلام داخل قوالب جاهزة، وتقدم منه صورا جامدة خالية من الروح، وتتعامل معه كأداة أمنية ووسيلة للضبط الاجتماعي.
يُشجع فيه المظهر، ويُحاصر الجوهر، وتُتهم فيه الأصوات المعتدلة المجددة بالتشدد والخيانة.
ومع تنامي حضور المسلمين في الغرب، لجأت بعض الحكومات الغربية إلى استخدام سياسات أكثر تشددا، وصل بعضها إلى حد الترحيل القسري بالتعاون مع أنظمة عربية استبدادية.
ولكن رغم ذلك، ظل كثير من المسلمين متمسكين بدينهم، وقدموا نماذج ناجحة في التعايش السلمي والمشاركة البناءة، وفتحوا أعين الشباب العربي في الداخل على إسلام بديل:
إسلام لا يشبه ما يُروَّج له على المنابر الرسمية، ولا يختزل الدين في العبارات المحنطة، بل يعيد له روحه الأولى.
إن قصة العرب والمسلمين في الغرب ليست حكاية اغتراب فحسب، بل سيرة مقاومة صامتة خاضوها بين الحنين للجذور والانفتاح على واقعهم الجديد.
فاستطاعوا أن يصوغوا لأنفسهم هوية هجينة تجمع بين الأصالة والحداثة، وتؤسس لفهم جديد للدين يحرره من التوظيف السياسي، ويعيده إلى جوهره الإنساني والأخلاقي الذي يقوم عليه.
لقد صار الإسلام في الغرب جسرا للتواصل، لا جدارا للفصل والعزل.
وصار في كثير من تجلياته رمزا للرحمة والانتماء والاحترام المتبادل، لا ساحةً للصراع، ولا وسيلةً للتخويف والترهيب والقمع والتخوين.
والقصة التي بدأت بطفل صغير يقرأ القرآن في حديقة أوروبية، ليست إلا واحدة من آلاف القصص التي تختصر مسيرة طويلة، يعيشها الإسلام كلما خرج من السجون وانطلق نحو المنابر المفتوحة.
ولا يمكن في هذا السياق تجاهل دور الأجيال الجديدة من المسلمين، ممن وُلدوا في الغرب، وتربّوا في مدارسه، وتأثروا بثقافته، وأعادوا اكتشاف الإسلام كخيار واعٍ، لا كميراث جامد.
أثبت كثير منهم أن الالتزام بالدين لا يعني الانغلاق، وأن التدين لا يتعارض مع الحداثة والحضارة.
كما أن المؤسسات الإسلامية في أوروبا باتت تُدار بكفاءات شابة ومثقفة، وبدأت تلعب دورا محوريا في تمثيل الإسلام بروح حضارية، بعيدة عن الصراخ والخطابة، وقريبة من العقل والمجتمع والمنطق.
بينما على الجانب الآخر، لا تزال بعض منابرنا في العالم العربي تكرر خطبا مكررة من القرن العاشر للهجرة، وتُجرم النقد، وتُسخر الدين لتبرير الواقع لا لتغييره إلى الأفضل.
وبات من المألوف أن تُغلق المنابر في وجوه المصلحين الحقيقيين، وتُفتح فقط لمن يردد ما يُطلب منه دون اجتهاد أو أن يفتح فمه ببنت شفة.
ورغم تزايد موجات الإسلاموفوبيا في الغرب، برزت أصوات غربية منصفة، تدافع عن حق المسلمين في الوجود والاعتقاد وممارسة الشعائر، وتعدّ الإسلام جزءا من التعددية الثقافية التي تثري المجتمع الغربي، لا تهدده.
هذه الأصوات، وإن كانت محدودة، تفتح نوافذ أمل، وتعيد شيئا من التوازن في مواجهة خطابات الكراهية.
أما في عالمنا العربي، فالدين الذي كان من المفترض أن يكون مصدر طمأنينة وكرامة لشعوبه، أصبح في بعض الأحيان أداة قمع، ووسيلة للتحشيد والتجييش، حتى فقد كثير من الشباب الثقة في خطابه، وراحوا يبحثون عن إجابات لأسئلتهم خارج حدود دولهم الأصلية.
إن الإسلام حين يُمنع من التنفس في وطنه، لا يموت، بل يُولد من جديد في مكان آخر، لا كدين غريب، بل كقيمة أخلاقية إنسانية كونية.
يعود بحقيقته التي شوهتها السياسة، ويجد صداه في قلوب أنهكها الفراغ الروحي وزيف الحضارات المادية.
وها هو يثبت لنا، مرة بعد أخرى من هذه الحديقة، أن صوته الحقيقي لا يُكمم بالسجون، وأن السبيل الأمثل للتعامل معه ليس القمع، بل فتح الأبواب والمنابر أمامه بثقة وحذر واعتدال.
فمتى نتعلم من الغرب هذا الاعتدال؟
يقول نجيب محفوظ:
“إذا كان الماضي لا يستحق الحديث، فلنصنع مستقبلا يستحق أن يُحكى ”.
إن الإسلام حين يُمنع من التنفس في وطنه، لا يموت، بل يُولد من جديد في مكان آخر، لا كدين غريب، بل كقيمة أخلاقية إنسانية كونية.
ماهذا ؟ سبحان من الهمك لهذا المقال الذي ينبغي أن يصل لجميع المسلمين حاكما ومحكوما عالما واميا ، والله يشهد لست محابيا ولا مجاملا استمتعت بكل حرف دونته ريشة قلمك ، مقال نحتاجه في هذا العصر .
اتفق معك أستاذنا الكريم محمد، لم يعد كثير من الناس في المجتمعات العربية والإسلامية، للأسف، يثق بالخطاب الديني وذلك لعدة أسباب، وهو بالفعل بحاجة للكثير من الإصلاح والتجديد. فلقد ملت الشعوب العربية والإسلامية من الجمود في الخطابات الدينية التي لا تناقش هموم الناس وقضاياهم، وملت من جعل الدين مجرد طقوس وشعائر يمارسها الإنسان بلا روح ولا معنى، وملت من الخروج على الحكومات الشرعية الصالحة واستخدام العنف والإرهاب ضدها وقتل الناس وتدمير الأوطان باسم الدين، وملت من تسخير الدين لتمجيد السلطات السياسية الفاسدة والدفاع عنها وعدم قول الحق وتنوير المجتمعات. إن شعوب العالم، وليس فقط الشعوب العربية والإسلامية، في هذا العصر المادي القاسي، بحاجة إلى دين السلام والرحمة والعدل والتعايش والوسطية، وليس إلى دين التشدد والظلم والنفاق والعنف والإقصاء.
سيبقى الخير في أمة محمد الى قيام الساعة والحق يعلو ولا يعلى عليه والدين الإسلامي دين الوسطية وما خُير رسول الله بين أمرين الا إختار أيسرهما لكن للأسف الشديد هناك من يسعون لتشويه صورة الإسلام في معقله وموطن انبعاثه ولو رجعنا لكتب التاريخ لوجدنا أن خلفاء المسلمين وملوكهم وأمراؤهم كانوا يحثون على الإعتدال ويمنعون التعسف ويحثون على احترام الآخر كذلك تجار المسلمين الذين جابوا العالم شرقاً وغرباً كانوا سبباً في انتشار الدين الإسلامي الصحيح بأخلاقهم وحسن تعاملهم .
تحياتي لك يابو سلطان ودايماً انت محفز للآخرين .
مقال رائع يحكي الكثير والكثير 👍 لافض فوك أستاذ محمد رئيس تحرير الصحيفة👏👏👏👏