الأم البيولوجية

سلطان المرشدي
الأم البيولوجية
بين سؤالٍ وجواب خجولان من بعضهما كشخصين للمرة الأولى يلتقيان، أنحن لا نستطيع أن نُضيف لبيوتنا الدفء ؟ أم أحضاننا الدافئة لا تُبنى فيها بيوت لأبنائنا ؟ لا إجابة تُشفي التساؤلات عند البعض أو تستطيع الوقوف أمامها.
وإن ما يؤرق الكثير، دخول شخص غريب إلى الأسرة ؛ للقيام بجزءٍ من واجباتها إن لم يكن جلها، يبني أركانها، ويوطد المشاعر مع أجزائها الصغيرة المتلهفة لدفء أيدينا، وحنان هذا المكان الذي لا يُمكن أن يُعوَّض بسواه.
ولكن رغم كل هذه الحاجة الماسة، لقد خاضت الحياة تغيرات،وتقلبات حتى على هذه الكينونة والملجأ الذي نأوي إليه من زخم الحياة وضجيجها، فمع الانفتاح الكبير على العالم، وانشغال الأب والأم جسديًّا، بل وروحيًّا عن أبنائهما، رغم أنهم يعيشون تحت سقف واحد، وبذخ العيش، ووفرة المال، وإنفاقه هنا وهناك، وسيطرة المظاهر الكاذبة على نمط الحياة، جعل الكثير يستعين بالخادمة، والسائق، دون الحاجة الملحة لهما، وقد يفتقدهما الأبناء في غيابهم أكثر من افتقادهم لأمهم البيولوجية، ووالدهم ، وكأنما وضعوا أبناؤهم على أرصفة الحياة في ليلةٍ ماطِرة لينجو هُم من الغرق.
وقد رأيت مثالا؛ لأن يرتاب أب من ألا يكون هو الصديق الأول لأبنه ، ولا المأمن الذي يتجرد فيه من كل مخاوفه، وجدران حذره، كنت قد ذهبت لأصلي العشاء في المسجد المجاور لمنزلي، وأثناء خروجي قابلني شخصٌ ما وعرّفني بنفسه، فرحبت به فأتبع كلامه قائلاً: سمعت أنك تعمل عضوا ومرشدًا نفسيًا في إحدى الجامعات ! أومأت برأسي وقلت: نعم، كيف أستطيع أن أخدمك؟ وفي داخلي معرفة تامة إلى أين يتجه حديثنا من الثواني الأولى، حيث استنتجت من أسئلته أن لديه مشكلة أسرية، ويبحث عن المساعدة.
قال : وكأن الدنيا تقف على أكتافه تسمع همه في تأوهاته، وتراها في شحوب عينيه -: المشكلة تخص ابني الصغير ، وتوقف يسترق النظر هنا وهناك، وكأنه يرغب في إخفاء خوفه على ابنه بإخفائه لسرد قصته، فدعوته إلى منزلي ليستطيع أن يروي حكايته، ويقص أطراف الحديث دون أن يتملكه القلق، قلت له: كلي آذانٌ صاغية، ولن أقاطعك إلا عند الحاجة، فاستطرد قائلاً: كنا أسرةً بسيطةً سعيدةً نشعر ببعضنا لا ينقصها شئ، فأنا أعمل جل وقتي من الصباح إلى المساء، وزوجتي ربة منزل، تدير بيتي، ومسؤولة عن تربية الأبناء، والأمور تسير على أحسن حال، وبدون سابق مقدمات، بدأت زوجتي تتذمر من الروتين الممل، وألحت عليَّ أن أجد لها فرصة عمل، رفضت الفكرة مرارًا وتكرارًا، فلدينا طفلين لازالا بحاجة إلى رعايتها واهتمامها، ومع إلحاحها المستمر، وتدخل من بعض أفراد أسرتها ، اضطررت أن أوافق على مضض، خاصةً وأنها تحمل شهادةً جامعية، ولكون أبنائي في مرحلة عمرية مبكرة، اضطررنا للاستعانة بخادمة لتحل مكان أمهم في غيابها، وتقوم بأعمال المنزل من تنظيف، وتحظير الطعام، خاصة وأن راتب الوظيفة لم يكن يغطي تكاليف الحضانة، أحضرنا الخادمة ، والتي سبق لها العمل في بيئة مشابهة لنا، ولحسن حظنا أنها كانت تتمتع بقلبٍ حانٍ ، وكانت تولي أبناءنا اهتمامًا كبيرًا وكأنها أمهم، بل كانت أكثر حنانًا عليهم من الأم، خاصة بعد انشغالها عنهم بعملها الجديد، وتحقيق ذاتها.
مكثنا على هذا الحال قرابة الثلاث سنوات، ونحن نرى أبناءنا يبتعدون عنا روحيًا شيئًا فشيئًا، وكأنهم لا يشبهوننا في شئ، جُل ما يحملوه منا “الاسم” ، فقد تأثر ابننا ، والذي كان في سن المحاكاة، والتقليد، بالخادمة ، وأصبح يقلدها في حديثها ، وأفكارها، بل كنت أحيانًا أجده يقلدها حتى في لباسها، أما الأصغر فأصبحت هي أمه بالفعل ، وقد أجزم أنه غير مدرك سوى لمشاعره التي تقوده إليها دونما أمه الحقيقية، فلم يعد يكترث لغيابها في وجود الخادمة ، أما عندما يفتقد الخادمة يجن جنونه، فقد ارتبط بها روحيًّا، وجسديًّا، ويبكي بكاءً هستيريًا إن غابت عنه ولو لدقائق ، فقد تعتقد لوهلة أن كل شئ توقف مع غيابها، ومع صراخه المتكرر أثناء النوم لابتعاده عنها، اضطررنا على إبقائه معها أثناء النوم.
لكن حدث ما لم يكن بالحسبان، أو حتى ما لم نتوقعه نحن بالفعل، ولم نخطط له، أو نستعد له كأدنى شئ، اقتربت اللحظة التي ستحسم أمرنا، وجاء اليوم الذي أخبرتنا إيليزا أنها تريد إنهاء خدماتها، والعودة إلى بلادها، وبدأت الكارثة من هُنا، فكيف سيتقبل أبناؤنا اختفاء أمهم ، وحضنهم الآمن والدافئ، لم نتوقع أن يكون لغيابها هذا الوقع على أطفالنا.
لقد مر ما يقارب الشهرين على رحيلها ونحن في جحيم لا يطاق، فأصبح الابن الأكبر منطويًا على نفسه لا يكلم أحدًا ، ولا يغادرغرفته ، حتى أنك تعتقد أنه فقد تواصله مع العالم الخارجي بالفعل ، ودون مبالغة – فقد نفسه – أما الابن الأصغر في بكاء لا ينقطع، بحثا عن أمه التي أغرقته بأمومتها، وتوسدت أعمق مشاعره، ما الحل الذي تنصحني به لنخرج بأبنائنا من هذا الحال؟ كيف نعود بهم من هاوية الطريق الذي وقفنا عليه دون إدراك نتائجه، ونرجعهم كما كانوا سابقًا؟
انتهى من سرد قصته ، وفي صوته عتاب يخنقه، وفي عينيه هلع يعذبه، فأجبته إجابة واحدة، وأنا ملم بكل الحلول النفسية، والتربوية: عليكم أخذهم إلى مختص نفسي، جن جنونه فلم يكن يتوقع إجابتي، قال مستنكرًا: يا أخي، لم المختص النفسي ؟! أولادي ليسوا مرضى نفسيين، فقلت: لن تستطيع حل مشكلتهم بين يوم وليلة، بل يحتاجون لعلاج معرفي، سلوكي، ومتابعة مستمرة، فقد تعرضوا لصدمة شديدة تشبه إلى حدٍ كبير صدمة من فقد أمه فجأة، طأطأ برأسه ندمًا وحسرة، فقلت: لا عليك شدة وستزول بمساعدة المختصين، ونصحته بزيارة أحد الأخصائيين في مركز معروف، وممن لهم باع طويل في هذا المجال، ومن هُنا استشعرت تجسيد وكأنما وضعوا أبناءهم على أرصفة الحياة في ليلةٍ ماطِرة لينجوا هُم من الغرق .
كاتب رأي ومؤلف
استاذنا الفاضل سلطان السلام عليكم وجدت مقالك بالصدفة على الإنترنت وسرني جدا قراءته بارك الله في قلمك وحلولك وفي الحقيقة ترك القارب للخادمات امر خطير فعلا والحل من وجھة نظري لمشكلة ھذا الشخص ھو تعزيز علاقة الطفل بجميع افراد العائلة وخلق بيئة حاضنة مليئة بالحب والاھتمام باسرع ما يمكن.
مع تحياتي استاذنا الفاضل🌹
اهلا بك استاذنا حامد سرني مرورك على مقال واضافتك الجميلة واثراؤك الرائع فعلا ترك الغارب للخادمات ليكن اما بديلة امر خطير جدا على الابناء ويهدد تربيتهم وسلوكهم <
👍👍👍👍