كُتاب الرأي

من فئران تجارب إلى مبدعين

 

يعاني أطفالنا اليوم من أزمة هوية خانقة، فهم محاصرون بين منظومة تعليمية قاسية حولتهم إلى (فئران تجارب) تُجرّب عليهم المناهج العشوائية، وبين واقع افتراضي ضحل، جعلهم يعيشون في عزلة عن محيطهم الحقيقي.

فبدلاً من أن تكون المؤسسات التعليمية حاضنة للإبداع والتطوير، تحولت إلى سجون تُفرّخ جيلاً مُنهك من مطاردة الدرجات و (الانتصارات الوهمية) في سباق محموم لا يفضي إلا إلى ضياع المتعة الحقيقية للتعلم واكتشاف الذات.

على الرغم من ثورة الاتصالات وتدفق المعلومات إلا أن هذا الجيل يعاني من (قصر النظر المعرفي والاجتماعي)، فهم غارقون في الفردية المقيتة، وعاجزون عن العيش في حياة تشاركية ثرية تُمكّنهم من التفاعل الحقيقي مع محيطهم، وفهم ذواتهم، وذوات الآخرين.

باختصار، هم يعيشون أزمة حقيقية تتمثل في انفصام حاد بين تعليم يفرض عليهم المنافسة المحمومة، وواقع افتراضي يعزلهم عن عيش تجارب حقيقية ثرية.

ما يميّز طفولتنا نحن (جيل الطيبين) عن جيل اليوم هي تلك المساحات الشاسعة من الحرية التي كنا نتمتع بها لاكتشاف العالم بأنفسنا، فلم تكن أدوات المعرفة تُلقن لنا جاهزة، بل كنا ننطلق كل يوم في رحلة استكشافية حقيقية، نختبر كل شيء بأنفسنا، ونبني معارفنا من خلال تجاربنا المباشرة، ومن خلال تفاعلنا المباشر مع محيطنا دون ان يتدخل الأهل كما نلاحظ اليوم.

لم نكن نعرف حينها تلك الحدود الصارمة التي تفصل البيت، عن الشارع، عن المدرسة، كنا نتحرك بحرية، ننسج صداقاتنا بأنفسنا بعيداً عن رقابة الكبار، ونواجه تحدياتنا بأنفسنا دون تدخلهم، ونتعلم من أخطائنا، ونُخفي أسرارنا في (عوالم سحرية) خاصة بنا لا يطلع عليها أحد سوانا مدى الحياة .

كانت طفولتنا رحلةً حقيقيةً في اكتشاف الذات والعالم من حولنا، رحلةً تميزت بالبراءة، والبساطة، وحرية التجربة والأخطاء التي صنعت منا جيلاً مُتمكّناً، قادراً على الاعتماد على نفسه، قابلاً للحياة في أقسى الظروف.

كانت البراءة هي سِمة طفولتنا، وهي التي ترسم في نفس الوقت ملامح عالم طفولتنا الخاص، وتلهمنا صنع ألعابنا، ونكتشف بكل الطرق ﻭ الوسائل متع حياتنا البسيطة، فبين (أزقة الحواري) وواجهات (الدكاكين)، كنا نُطلق العنان لخيالنا الخصب، ونخوض مغامراتنا التي لا تُنسى.

لم تكن ألعابنا تُشترى من أمازون، او من علي بابا، او من المتاجر الإلكترونية الأخرى، بل كنا نصنعها بأنفسنا، مستخدمين ما يتوفر من مواد بسيطة، فنُحوّل الطين مثلاً إلى عرائس، والكراتين إلى بيوت، والأحجار إلى كنوز مخبأة. وأغطية (قوارير البيبسي) إلي عجلات، و (جوالين زيوت السيارات المعدنية) لآلات موسيقية، و (مرابيع الخشب) الملقاة في الشوارع إلى مراجيح، و (جريد النخيل) إلى خيول تنطلق بنا، ونحن نمتطيها كريح.

وعلاقتنا بأصحاب الدكاكين كانت مَزِيجًاً من المودة والمُشاكسة، فنحن زبائنهم الصغار الذين لا غنى لهم عنا، وهم حُماة المكان الذي اخترناه ساحةً للعبنا وعبثنا أمام دكاكينهم، وكثيراً ما كانت (الكُرة) هي محور صراعنا الطفولي معهم، ورمز تمردنا، ورغبتهم الدائمة في ضبط إيقاع الشارع الذي نجعله لهم بـ (كراتنا) إستادا رياضياً يمنع وصول الزبائن لمتاجرهم .

في تلك الأيام، تعلمنا من الشارع دروساً في التعاون والمُشاركة والتحدي، واكتشفنا بأنفسنا معنى الصداقة الحقيقية، وشكلنا ذكريات لا تُمحى من ذاكرتنا، ومن ذاكرة الزمن.

تميّزت طفولتنا بمساحة واسعة من الحرية والبساطة، سمحت لنا باستكشاف العالم من حولنا، وصقلت مهاراتنا، وشكلت شخصياتنا بعيداً عن ضغوط الأهل وحياتنا العصرية.

كنا نعيش طفولةً حقيقية بمعنى الكلمة، نُجسد فيها أدواراً مُختلفة، نُحاكي فيها (أبطالنا الخارقين)، في مسلسل (فارس بني عياد) الفنان عبد المجيد مجذوب، ومسلسل (اليد الجريحة) الفنان رشيد علامة، ونُطلق العنان لخيالنا، ونُحوّل الأماكن العادية إلى عوالم سحرية.

ورحلة ذهابنا إلى مدارسنا وعودتنا منها كانت بمثابة مغامرة يومية، نُكوّن خلالها الصداقات، ونتعلم دروساً قيّمة. ولم يكن التفوق مقتصراً على التحصيل الدراسي فحسب، بل كان هناك تقدير للمواهب الفنية والرياضية والثقافية ﻭالموسيقية من معلم الجيل آنذاك سعادة المربي الفاضل مدير التعليم بمنطقة المدينة المنورة الاستاذ الشيخ/ عبدالعزيز الربيع رحمه الله، الذي أسهم في تنمية شخصياتنا بشكل متكامل، وجعلنا من نعومة أظفارنا نعشق الكتابة والكلمة والتميز والإبداع والحرف .

ولعل أبرز ما كان يميز طفولتنا هو التوازن بين الواجبات والترفيه، فلم يكن عبء الدراسة يُلقى على عاتقنا طوال الوقت، بل كان لدينا متسع من الوقت لممارسة هواياتنا وقضاء أوقات ممتعة.

إنّ حرمان أطفالنا اليوم من هذه المساحة من الحرية والعفوية والتجريب، يُهدد بقتل روح الإبداع لديهم، ويُحوّلهم إلى آلات إنتاجية تُقاد وفقاً لإيقاعاتها المتسارعة، وتفقدهم فرصة الاستمتاع بطفولتهم التي تُشكّل الأساس الذي يُبنى عليه مستقبلهم.

فالطفولة مرحلة تأسيسية هامة في حياة الإنسان، تُشكّل وعيه، وتُنمّي خياله، وتُرسّخ لديه القيم والمبادئ الأساسية التي تُساعده على النجاح في حياته المستقبلية.

لم تكن رحلتنا المدرسية قاصرة على أسوار المدرسة، بل امتدت لتشمل الطريق المؤدي إليها، تلك المسافة التي كنا نقطعها سيراً على الأقدام، لنُشكّل من خلالها ذكريات لا تُنسى، ونُرسّخ قيم الصداقة والتعاون التي استمرت إلي اليوم.

فقد كانت تلك الرحلة بمثابة (مدرسة أخرى) نُنمّي فيها مهاراتنا الاجتماعية، ونكتسب خبرات عملية، ونُغذي شغفنا بالتعلم بعيداً عن ضغوط الكتب والدفاتر، وقسوة الحياة.

كان الترفيه بمثابة (مكافأة) ننالها بعد إنجاز واجباتنا الدراسية، مما خلق لدينا شعوراً بالمسؤولية، وحَفّزنا على إنجاز مهامنا بجد واجتهاد.

فمثلاً الملك “فاروق”، رحمه الله، فقد براءة الطفولة في سبيل تحقيق أهداف مُبكرة، وبين ضغوط المسؤولية ومتعة اللعب، تُسلب من الأطفال طفولتهم بحكم الظروف أو المسؤوليات التي تلقي على عاتقهم مبكرا، فالملك فاروق قضى سنوات طفولته يُحضّر للحُكم، بينما كان يجد مُتعة حياته الحقيقية في اللعب مع خدم القصر خفية بعيدًا عن أعين الجميع، وبرغم إنجازاته الاستثنائية إلا أنه حُرم من عيش طفولة طبيعية تُتيح له الاستمتاع ببراءته وحريته الشخصية.

وكثيرا من العباقرة والمبدعين عاشوا طفولة مختلفة عن أقرانهم، إلا أن فكرة تجريد الطفل عندنا من طفولته تُثِير الكثير من التساؤلات حول أهمية هذه المرحلة في تكوين شخصيته وتشكيل مستقبله، فالطفولة حقٌ لكل طفل، بغض النظر عن ظروفه أو مستقبله او مكانته الأسرية، وهي ليست مجرد سنوات تمرّ، بل هي بُنية أساسية تُشكّل شخصيته، وتُؤثّر في مسار حياته إلي أن يموت .

إنّ أروع ما يُميّز عالم الطفولة هو تلك المساحة الشاسعة من الحرية والعفوية التي تُتيح للصغار التعبير عن ذواتهم بلا قيود، واستكشاف العالم من حولهم بفضولٍ وإقدام ودون تدخل الكبار.

فالطفل، بفطرته، ينطلق نحو الحياة كفراشة مُلوّنة، لا تحدّها سوى حدود خيالها، تتراقص بين ألوان الطبيعة، وتُحلّق في سماء الاكتشاف بكل عفوية وبراءة.

وصحيح أن كثيراً من العباقرة والمبدعين عاشوا طفولة مختلفة عن أقرانهم، لكن هذا لا يعني التضحية بجوهر الطفولة نفسها، فالطفولة ليست مجرد مرحلة عمرية، بل هي حالة ذهنية تتميّز بالفضول، والسعادة، والتحرر من قيود العالم الخارجي، ودمج التجربة الوجودية مع التجربة المعرفية، والتوفيق بين العقل والخيال، هو أفضل ما يمكن أن نُقدّمه للأطفال.

فالطفل ليس “رجل الغد” فحسب، بل هو إنسانٌ يعيش الحاضر، ويستحق الاستمتاع به، وروح الطفولة، ببراءتها وعفويتها وشقاوتها وتمردها، داخل كلٍّ فرد منّا، هي من أسرار السعادة والإبداع.
ولهذا رفضنا في تلك الفترة أن نُصبح مجرد أرقامٍ في قوائم وزارة المعارف وفئران تجاربٍ تُجرى عليها الاختبارات، واخترنا بطوعنا واختيارنا أن نُكون طلابًا مشاغبين يُفكرون وينفذون ويُبدعون.

محمد الفريدي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

‫4 تعليقات

  1. اخي الكاتب محمد الفريدي :
    من وجهة نظري القاصرة ولست بمن يجرأ على انتقاد ما يخطة قلمك الرائع دائما ولكن لي تعقيب بسيط :
    الزمان غير الزمان والادوات غير الادوات والكثافة السكانية غير عن الجيل الذي تتحدث عنه والنفوس تغيرت كثيراً ( من يجرأ الان من جيرانك بتأديب إبنك إن رأه مخطئاً ) ..
    أضف لذلك ماتحدثت عنه انت من أن جيلينا كان يصنع العابه من الطبيعة فلا مقارنة بين هذا وذاك ( الجوال – الايباد ) الان بيد كل طفل لم يتجاوز الثالثة من عمره .. فالجيل غير الجيل السابق ..
    نعم الشارع علمنا لاننا في أمان لمعرفة أولياء أمورنا بمن حولنا آنذاك .. واليوم إذا خرج إبنك البالغ الى أي مشوار وتأخر بعض الشيء تجد نفسك لاشعورياً تمسك الهاتف وتتطمن عليه أين أنت ؟!
    من ناحية التعليم أوافقك الرأي أنه الان مجرد حشو معلومات تتبخر بأجتياز الاختبار والمرحلة العمرية فلا ثقافة ولا معلومات يستفيد منها الطالب في مستقبله العلمي مجرد اجتياز مراحل فقط ..
    هناك الكثير والكثير من السرد ولا أريد أن اطيل في الرد..

    اعتقد ومن وجهة نظري القاصرة إن المقارنة ظالمة وفي غير محلها ..
    تقبل وجهة نظري ..
    ولك خالص احترامي وتقديري .

  2. في مقال رئيس التحرير الذي بين أيدينا في هذا العدد إجابات واضحة لإعداد هائلة لخريجي الثانوية العامة من الطلاب والطالبات التي ذهبت آمالهم وطموحاتهم كالسراب أمام التخصصات الجامعية التي تحفهم الأيام وسهر الليالي والساعات الطويلة التي ذهبت أدراج الرياح فذهب الكثير منهم للكليات الخاصة باهظت التكاليف لتمثل ندم وحصره واسقاطات إجبارية فرضت على الخرجين في القدرات والتحصيل الدراسي بعد ١٨ عاما من التعب والسهر والإرهاق والجوع والعطش مضت لتقف عاجزة عن إعطاء تلك الشريحة فرصتها في الالتحاق بالكليات الطبية الخاصة

  3. مقال رائع وانتقاء موفق لهكذا موضوع ، عدنا معه لأزقة الشوارع ، وشممنا بين سطوره رائحة الطين الندي ، ومدى الحياة الجميلة المتوارنة والتربية المتسقة مع الزمان والمكان ، والحقبة التي كان لها أبلغ الأثر في تنشئة ذلك الجيل المخضرم الذي جمع بين الماضي والحاضر وكان قادراً على نيل أعلى المراتب برغم ماكان أمامه من التزامات ورغم كل الظروف ..

    تحياتي لقلمك التميز أ محمد ..

    فتحية علي

  4. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    ما شاء الله تبارك الله
    كعادة يا أبا سلطان
    مميز مبدع
    ويحاول قلمك السّيال المفّضال
    حقيقة أن يشق طريقا جديداً
    في عوالم الكتابة الصحافية.
    المقال يحمل عدداً من الرسائل
    الوطنية والتربية والاجتماعية
    والثقافية الفكرية كذلك ..
    شكرا شكرا لكم أبا سلطان
    على حسن الطرح والعرض
    وعلى عمق المادة العلمية
    وعلى بساطة العرض المميز
    فقد وصلت الرسائل .
    وإلى الأمام دائما وابدا…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى