كُتاب الرأي

قروبات واتساب الثقافية بين الواقع والمأمول

د. سارة الأزوري

قروبات واتساب الثقافية بين الواقع والمأمول

منذ أن تحوّل تطبيق “واتساب” إلى جزء أساسي من الحياة اليومية، بدأت القروبات تتكاثر في كل اتجاه: عائلية، مهنية، تعليمية، وترفيهية. ومع ذلك ظلّت القروبات ذات الطابع الثقافي أكثر إثارة للجدل، لأنها تعكس علاقة المثقف بالفضاء الرقمي وتكشف عن مدى قابلية هذا الفضاء لأن يكون امتداداً للمجالس الأدبية والمنتديات التقليدية. فالمثقفون الذين كانوا يجدون في الصالونات أو الندوات ساحة للنقاش، وجدوا أنفسهم أمام شاشة صغيرة تحمل أصواتاً متعددة، لكنها محكومة بسرعة الرسائل وتشتت الانتباه. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل نجحت هذه القروبات في أن تكون حاضنة للثقافة، أم أنها تحولت إلى مجرد تجمعات عابرة بلا أثر حقيقي؟

كثير من هذه المجموعات انجرف إلى ما يشبه “الشللية الافتراضية”، حيث يدار الحوار وفق مزاجية المشرفين أو رغبة بعض الأعضاء في إبراز ذواتهم أكثر من السعي لإثراء المعرفة. وغالباً ما تتحول المساحة إلى تبادل مجاملات عابرة أو إعادة نشر مواد سطحية، بينما يغيب النقاش النقدي العميق الذي يُفترض أن يمنح القروب قيمته الحقيقية. ويصف بعض المهتمين هذه القروبات بأنها قارة افتراضية محدودة السكان، لا يسكنها سوى من يريد الظهور أو من يملك قدراً يسيراً من الموهبة، وغالباً ما يظل الحوار محصوراً في دائرة ضيقة لا تتجاوز التهنئة أو التعليق السريع.

ومع ذلك فإن هذه الصورة لا تُخفي حقيقة أن القروبات الثقافية تحمل إمكانات واسعة إذا أُحسن تنظيمها، ويمكن أن تتحول إلى منصّة معرفية حقيقية. فالقدرة على تبادل المقالات والدعوات للفعاليات الأدبية، أو مناقشة كتاب بشكل دوري، أو استضافة كاتب عبر الصوت والصورة، كلها ممارسات قادرة على رفع مستوى الفائدة. غير أنّ التحدي الأكبر يكمن في كيفية جذب الأعضاء إليها والمحافظة عليهم من التسرب. فالحياة مثقلة بالانشغالات، والجدية الزائدة تجعل العضو يشعر أن وجوده في القروب عبء إضافي، فينسحب في صمت.

ولجذب الأعضاء، لا بد أن يقوم القروب على وضوح الهدف منذ البداية، فالمجموعة التي تعلن نفسها “مختصة بقراءة الرواية السعودية الجديدة” أو “مخصصة لتبادل مقالات فكرية قصيرة” تبدو أكثر إقناعاً من مجموعة فضفاضة بلا هوية محددة. كما أن التنويع في الإيقاع يجعل القروب يتنفس، فمرة نقاش أدبي مطوّل، ومرة مشاركة قصيدة قصيرة، ومرة رابط لمقال أو تسجيل صوتي، وأحياناً مساحة خفيفة مثل سؤال الأسبوع أو صورة وتعليق، فيشعر الأعضاء أنهم في بيئة ثقافية حيّة لا في قاعة دراسية جافة. ومن المهم أيضاً توزيع الأدوار بحيث يتناوب الأعضاء على تقديم موضوع أسبوعي أو تلخيص كتاب، فهذا يمنحهم إحساساً بالمسؤولية والانتماء ويقلل رغبتهم في الانسحاب.

أما منع التسرب فيتحقق عبر المرونة في التعامل مع الأعضاء؛ فليس الجميع قادرين على المشاركة المتواصلة، وبعضهم يفضّل الاكتفاء بالقراءة الصامتة. وحين يشعر هؤلاء بأن وجودهم مرحّب به حتى من دون تعليق دائم، يظلّون جزءاً من المجموعة ولا يضطرون إلى المغادرة. كما أنّ إدخال فسحات للترويح – كإعادة نشر مقطع موسيقي قديم أو مقطع من أمسية شعرية – يكسر حدة الجدية الثقيلة ويجعل القروب أكثر دفئاً. وأخيراً فإن الاعتراف بواقع الحياة يفرض أن يتيح القروب لنفسه فترات استراحة أو تخفيف للنشر، فيشعر الأعضاء أن المجموعة تراعي ظروفهم الشخصية.

بهذه الطريقة لا تتحول القروبات الثقافية إلى واجب ثقيل، بل إلى فضاء رحب يجمع بين الجدية والمتعة. فهي ليست خيراً محضاً ولا شراً مطلقاً، وإنما انعكاس لطبيعة من يديرها ويشارك فيها. وإذا استطاعت أن توازن بين العمق والمرونة، فإنها ستكون جسراً حقيقياً للحوار الثقافي، لا مجرد صدى للثرثرة العابرة. وفي النهاية، فإن القروبات ليست سوى مرآة لواقعنا الثقافي الأوسع: ضجيج كثير، حوار قليل، وأمل معقود على أن يجد المثقف في هذا الفضاء مكاناً لا للتلميع الشخصي، بل لبناء مساحة معرفية تحفظ للثقافة حضورها في زمن تتسارع فيه الوسائل وتضيق فيه المسافات.

كاتبة رأي

 

 

الدكتورة سارة الأزوري

أديبة وشاعرة وقاصة وكاتبة رأي سعودية

‫2 تعليقات

    1. مرحبا بكم في صحيفة آخر أخبار الأرض، منبر الكلمة الحرة وصوت الحقيقة.
      يسعدنا تواصلكم معنا، ويمكنكم مراسلة إدارة التحرير عبر البريد الإلكتروني:

      ‏lastearthnews@hotmail.com

      نرحب بمشاركاتكم القيّمة التي تثري مسيرتنا الإعلامية.
      رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى