كُتاب الرأي

ابن حزم الأندلسي ونموذج التفرد العاطفي

 

كنت قد قرأت ذات يوم عن العلامة الجليل علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي ، وأثار انتباهي ، وألهب عاطفتي ، بل وحرضها على المزيد من الاطلاع ، سِبك الكلام ، واستفراده بعمق الجمل، وبديع اللفظ .
كان يتحدث عن قبح المعصية وفضل التعفف في العاطفة، ونحن منه قريبون ، بل ونتفق معه إلى ما سعى إليه وأسهب فيه.
يقول العلامة ابن حزم الأندلسي- رحمه الله- أنّ الحب أوله هزل وآخره جد وهو بهذا يبين أنّ الحب،ليس بمنكر ولا بمحظور ، إذ أن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى ،فلا تدرك ذلك إلا بالمعاناة، فما أن يصاب الإنسان بالحب إلا وتتبدل أحواله ، وتتغير شؤونه هكذا يراها ، وبهذه الصورة يترجمها ، ولنا في القصص التاريخية عبر، ومواعظ ، وعلامات.
فمن علامات اختراق الحب للنفس ، تلك التي لا تخفى على الفَطِن ، يكتشفها الذكي ، ويغوص فيها النبيه ، ليس له قدرة على مواجهتها ، تقفز عليه، وتشتعل فيه، وأول علاماته : إدامة النظر إلى المحبوب ، ينزوي بانزوائه ، ويظهر بظهوره ، يميل حيث يميل، يعشق حضوره ،ويتألم لغيابه، يرمقه في الخفاء ،ويغض بصره عند الانتباه، تجده مقبلاً على حديثه ، مبتهجًا لكلامه ، يهدأ روعه عند رؤيته ، أو عند سماع اسمه، يسرع للمكان الذي هو فيه ، ويتعمد الدنو منه ، يستهين بكل خطب يدعوه للابتعاد ، ويستميت دفاعًا عنه ، يحاول أن يبطئ في مفارقته ويعجل في مقابلته ، مع اضطراب يحدث عند مصافحته ، أيضًا هناك الشاهد الظاهر على عمق المشاعر نرى الأضداد تحضر، الانبساط الزائد في حال الرضى، والتضايق الواسع لحظة الألم.
وإسهابًا في العلامات نجد أن نفس المحب تأنس إلى أهل المحبوب وخاصته وقرابته حتى أنهم يصبحون أقرب إلى نفسه من أهله، كما أن البكاء ديدنه ، منه ما يكون غزيرًا في دموعه حال الفراق ، أو الفقد ، ومنهم من يجمد الدمع في مقلتيه ، تتسارع نبضات قلبه عند اللقاء ، ويخفق فؤاده بشدة ، ويشعر بطعم مر كمرارة العلقم تحول بينه وبين تَوفِيَةِ( إنهاء ) الكلام .
أما عن العتاب فحدث ولا حرج يكثر سوء الظن ، والاتهام ، وتوجيه الكلمة إلى غير وجهتها ، ثم أنه لا يحتمل من المحب شيئًا. أما مع الأغراب أوسع نفسًا وأكثر صبرًا ، وأشد احتمالاً ، وأرحب صدرًا .
إنً المتأمل في حصافة وبلاغة وغزير علم العلامة ابن حزم الأندلسي في رائعته طوق الحمامة، يجد أنه يغوص في عاطفة الحب فيخرج لنا أصوله وصفاته، ويوضح لنا المذموم منه والمحمود.
إنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة خاصة إذا ما علمنا أن التمازج بين المخلوقات إنما هو اتصال وانفصال، فالمِثلُ إلى مثله ساكن ، والشكل يستدعي شكله دأبًا ، فكيف بعالم النفوس الصافي ، وجوهرها المعتدل.
كل ذلك معلوم بالفطرة حتى أن القرآن الكريم استشهد بأحوال النفس حين تسكن إلى الأخرى قال تعالى(( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ))
إن علة الحب ليست في الصورة الجسدية ، علتها في تقديم محبة الأدنى على الأعلى ، ولو تخلصت النفس من هذا لما انتقصت من الأشرف واستبدلته بالأسفل.
ختامًا/على قدر طبيعة الإنسان وإجابتها وامتناعها وقوة تمكن الحب أو ضعفه في القلب، علينا إدراك أن كل ماله أول له آخر وعاقبة الحب آيلة إلى أمرين: احترام المنيّة ، أو سلو حادث بعد تجرع مرارات الصبر.
أخيرًا/إنّ من حميد الغرائز وفاضل الأخلاق وكريم الشيم في الحب وفي غيره الوفاء وإن من أوضح البراهين على طيب الأصل ، ومن أرفع ما شاهدته من الوفاء أن من رضي بقطيعة محبوبه ، وهجرانه وتمادى في كتمان أسراره ، رغم تفريق الأيام بينهما وأبى من ذلك غدره إلا أوضح دليل على ما كان يكنه له من حب صافي لا تشوبه شائبة ولا يخالطه رياء.
آخرًا/ كل من قطّعت قلبه ضروب الوجد ثم بعدها ظفر بمن يحب ؛ عليه أن يلزم طاعته ، ومؤانسته ، والمحافظة عليه ، والعوم في بحره لكي تعود الشراسة لينًا ، والصعوبة سهلة ، والحميّة استسلامًا.
انتهى

علي بن عيضة المالكي
كاتب رأي

علي بن عيضة المالكي

كاتب رأي وإعلامي

‫4 تعليقات

  1. كلمات عظيمة مؤثرة فائقة البلاغة، بديعة الحس، تشعر كأنك في بستان من الورد تجذبك ألوانه المتنوعة في كل الإتجاهات، ويربطها شيء واحد هو الجمال… إبداااااع ياأستاذ علي👌

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى