في قريتي الحالمة… حيثُ للجمال ألفُ معنى

في قريتي الحالمة… حيثُ للجمال ألفُ معنى
في أحضان الطبيعة، حيث النسيم ينساب بين الأغصان كهمسٍ رقيق، وحيث الأشجار تحرس البيوت الصغيرة بعاطفة أمٍّ هناك ترقد قريتي الهادئة، كأنها حلمٌ لا يريد أن يصحو.
ليست مجرد مكان تسكنه الجغرافيا، بل موطن يسكن الذاكرة والروح.
في قريتي، يصبح الاجتماع أكثر من عادة، إنه طقسٌ من الألفة والفرح، تبدأه الوجوه الطيبة بابتسامات صادقة، وتكمله القلوب العامرة بالمحبة. لا وجود للتكلّف، ولا حاجة للمجاملات، فكل شيء يجري على سجيّته، كما تجري الجداول بين الحقول: صافياً، نقيّاً، ومملوءًا بالحياة.
البيوت متقاربة، ليس في البُنيان فقط، بل في نبضها الإنساني، في نوافذها التي تفتح على بعضها، وفي الأرواح التي تتعانق كل صباح كأنها على موعد دائم مع الخير، الأصوات التي تتعالى في الأسواق الصغيرة، وحديث المساء على أطراف الطرقات، والأطفال الذين يركضون خلف الفراشات، كل ذلك يصنع نسيجًا من الحنين لا يُنسى.
وكم من ذكرى تُنادي قلبي كلما مررتُ بين الأزقة القديمة… هناك حيث كنا نركض حفاةً فوق ترابٍ ناعم، لا نعرف غير اللعب والضحك، ولا نحمل في صدورنا سوى براءة الطفولة. كنتُ أجلس عند باب جدتي أستمع لحكاياتها، فينطفئ العالم من حولي، وتظل كلماتها وحدها تضيء خيالي. كم من مساءٍ سهرنا فيه على سطح المنزل، نعدُّ النجوم، ونتخيلها رسائل من السماء، نُخبئ أمانينا في أعماقها.
أشتاق إلى تلك الأيام التي كانت فيها البهجة تأتي من أشياء بسيطة: كرة مصنوعة من القماش، أو ضحكةٌ تُطلقها الريح من فم صديق قديم. أشتاق إلى لحظة انتظار الخبز من تنور الوالدة، وإلى صوت المؤذن حين يمتزج بندى الفجر على شباك الغرفة.
التواصل في قريتي له طابع خاص، لا تفرضه الحاجة ولا تقتضيه المصلحة، بل تمليه الفطرة. الجميع يعرف الجميع، لا أحد يشعر بالغربة أو الوحدة، فالعلاقات هنا نسجٌ من المودّة والتراحم، والسؤال عن الغائب عادة لا تنقطع، والوقوف مع المحتاج موقفٌ لا يُطلب.
أجمل اللحظات تلك التي نقضيها في ظلّ شجرة أو على حصيرٍ في باحة البيت، نتبادل الأحاديث، ونضحك من القلب، ونستعيد ذكرياتنا القديمة. الزمن في قريتي لا يُقاس بالساعات، بل يُقاس باللحظات الصافية التي نعيشها مع من نحب، وبالسكينة التي تغمر أرواحنا دون أن نطلبها.
حين أغادر قريتي، يبقى جزءٌ مني فيها، كأنها تحتفظ بشيء من أنفاسي وذكرياتي، وعندما أعود، أشعر أنني أعود إلى ذاتي، إلى الجذور التي روتني يومًا، وإلى الهدوء الذي لا تمنحه المدن مهما ازدانت.
في قريتي، الحياة أبسط، لكنها أعمق. اللحظات أطول، لأنها تُعاش بصدق. وكلّ اجتماع فيها ليس مجرد لقاء، بل عيدٌ للقلوب..
د. دخيل الله عيضه الحارثي