إلى تماثيل الملح التي تنتظر البرابرة

إلى تماثيل الملح التي تنتظر البرابرة
في قصيدته الشهيرة “في انتظار البرابرة” التي كتبها عام 1911 يصوّر الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس إمبراطورية غارقة في مشاكلها الداخلية، وأصابها الوهن والضعف، وعلى وشك السقوط تترقب مع إمبراطورها وقادتها العسكريين على ابواب أسوارها وصول “البرابرة” كحلٍ نهائي يخلّصها من أزمتها التي لا حل لها إلا بالتغيير والاحتلال.
يكشف كفافيس في قصيدته هذه كيف يصبح اقتراب الخطر الخارجي فرصة عظيمة للتغيير الداخلي الذي يتمناه الجميع، وحتى مجلس شيوخها من يأسه يتوقّف عن سن القوانين لأن البرابرة كما يقولون سيسنون لها قوانين جديدة، والإمبراطور يتزين كل يوم ومعه قادة إمبراطوريته على أمل أن يمنحهم الغزاة معنى جديد لحياتهم الراكدة التي لا معنى لها إلى أن تصل قصيدته إلى ذروتها حين يُعلن أن البرابرة لن يأتوا مما يُربك سكانها الذين فقدوا الأمل من التغيير و (الحل النهائي المنتظر).
رمزية كفافيس تكررت بشكل مختلف قليلا مع سقوط نظام بشار الأسد فقد كان “البرابرة” هذه المرة، حاضرين واقتحموا أسوار عاصمته التي كان سكانها ينتظرونهم على ابوابها بفارغ الصبر لينقضّوا معهم على نظام امبراطورية متهاو منذ 13 عاما، و مازال ينتظر رصاصة الرحمة.
انهار نظام الأسد أمام تقدم المعارضة التي انطلقت من إدلب، وسيطرت سريعا على مدن استراتيجية مثل حلب وحماة وحمص رغم كونها معاقل للنظام ومراكز عسكرية وأحياء موالية له، وفي الجنوب، تمكنت المعارضة من فرض سيطرتها على ثلاث محافظات بمساندة مقاتلين دروز وسط تصاعد الاحتجاجات منذ عام 2022 نتيجة الاستياء الشعبي وضعف النظام الذي فقد شرعيته وسيطرته على كامل مناطق سوريا.
ورث بشار الأسد السلطة في عام 2000 بعد وفاة والده حافظ الأسد، واتبّع النهج الاستبدادي ذاته الذي أرساه والده. وتميّزت فترة حكمه بالقمع والتصفيات الجماعية، كما في مجزرة حماة، واستمر العنف يتصاعد خلال احتجاجات عام 2011 حتى تحولت الأزمة السورية من قضية داخلية بسيطة قابلة للحل إلى نزاع إقليمي ودولي معقّد انتهى بسقوط نظامه، غير مأسوف عليه حتى من ابناء طائفته والموالين له.
فسياسات بشار الأسد وأخيه تسببت في تدمير بنية سوريا التحتية وتفكك البلاد إلى مناطق نفوذ محلية وإقليمية ودولية وإبادة وتهجير قسري وتدهور الاقتصاد وزيادة الفقر والجوع، وتحولت سوريا إلى ثقب أسود يلتهم مواردها وموارد الدول التي تدعمها وكل شيء فيها .
وعندما وصلت فصائل المعارضة إلى دمشق، اكتشفوا أن النظام الذي حكم سوريا لأكثر من نصف قرن بالحديد والنار قد تهاوى، وأن الثكنات العسكرية والمقرات الحكومية خلت من الحياة، ولم يجدوا الإمبراطور، ولا قادة نظامه في انتظارهم على أبوابها، كما قال كفافيس في قصيدته:
“متى وصل البرابرة إلى المدينة؟
لم يكن في المدينة إلا رجال كبار السن،
نقاشاتهم كانت متثاقلة،
ولم يكونوا يعرفون أن الغزاة الجدد قد وصلوا”.
هرب بشار الأسد إلى روسيا وترك وراءه نظاما منهارا وشعبا محطم، و نهاية تؤكد لنا جميعا أن الأنظمة التي تبني سلطتها على الخوف والقمع لن تصمد أمام إرادة الشعوب، وإن طال الزمان بها.
سقوط نظام الأسد ليس مجرد حدث محلي عابر بل هو درس للعالم العربي بأسره بأن الأنظمة التي تعزل نفسها عن شعوبها وتبني سلطتها على القمع ستنهار حتما فقد أثبتت الثورة السورية أن الشعوب لن تظل صامتة إلى الأبد، وأن التغيير آتٍ لا محالة طالما استمر القمع والظلم.
فالعولمة ووسائل التواصل الاجتماعي جعلت من المستحيل على الحكام عزل أنفسهم عن شعوبهم، ودول العالم العربي بحاجة ماسة إلى أنظمة تستجيب لآمال شعوبها، تقوم على العدالة والمساواة، وتجاهل إرادة الشعوب واستمرار القمع سيؤدي إلى مزيد من التفكك والتشرذم والاضطرابات، بينما الأنظمة التي تسعى إلى العدالة والمساواة ستظل في المنطقة رمزا للشرعية والاستقرار.
وعلى النظام الجديد في سوريا أن يتعلم من أخطاء الماضي، ويبدأ مرحلة جديدة تقوم على العدالة والمساواة والمصالحة، وأن تدرك الأنظمة الأخرى أن البقاء في السلطة لا يعتمد على الخوف والتخويف والقمع بل على احترام إرادة الشعوب وتلبية متطلباتها.
إن ما حدث في سوريا هو بمثابة درس لكل نظام مستبد يظن أنه قادر على حكم الشعوب بالحديد والنار إلى ما لا نهاية فالشعوب قد تصمت لبعض الوقت، ولكنها لن تبقى كذلك إلى الأبد، و”البرابرة” سيصلون حتما في أي يوم من الأيام ليكتبوا نهاية لكل مستبد.
سوريا اليوم تمثل مفترق طرق للعالم العربي، فإما أن تتعلم من الدرس، وتبني مستقبلا عادلا، أو تستمر في دوامة الصراعات، وتترك الآخرين يصنعون مستقبلها، أو تنتظر “برابرة جدد” يغيرون واقعها.
والبقاء في السلطة لا يُبنى على الخوف والقمع، بل على العدل واحترام إرادة الشعوب التي لم تعد كما كانت في الأمس، فقد ولى عصر تجاهل تطلعاتها.
وعلى الشعوب العربية ألا تنتظر خلاصها من الخارج، فمصير أوطانهم يصنعه أبناء الوطن وحدهم مع حكامها، وليس مع قوى خارجية أو “برابرة جدد”، والتجربة السورية درس قاسٍ بلا شك، ولكنها فرصة ثمينة لتطوير أنظمتنا العربية وطريقة تعاملها مع الشعب.
والتغيير إلى الأفضل لا يتحقق إلا عبر إرادة الشعوب التي تستطيع رسم مستقبلها، والحكام الذين اعتمدوا على قوتهم وبطشهم بالأمس لم يدوموا في السلطة طويلا، بل كان مصيرهم إما الهروب واللجوء أو الزوال والقتل، والمستقبل العربي يحتاج إلى تغييرات إيجابية حديثة في تعامل الدول مع شعوبها التي تعد الأقدر على تحديد همومها واحتياجاتها ومشكلاتها وتحقيق الأمن والاستقرار لها.
التغيير الحقيقي يبدأ بإرادة مشتركة بين الحكام والشعوب، باعتبارهم شركاء في بناء الأوطان وتنمية الإنسان، من خلال حوار شفاف يرسخ أولا الأمن والامان والعدالة والمساواة ، فالتحديات الراهنة تتطلب تكاتف الجهود وتوحيد الرؤى بين القيادات والشعوب، وتعزيز قيم المواطنة، وتوفير حياة كريمة للأجيال القادمة، وضمان إدارة فعّالة تُمهد لمستقبل أفضل يُسهم في نهضة الأوطان وازدهار الإنسان ، فالأوطان لا تنهض إلا بإرادة موحدة و أمن قوي يحميها وعدالة راسخة تصنع مستقبلا يليق بشعوبها ويعزز قوة هذا الكيان.
و أرفع رأسك فوق انته سوري حر
محمد الفريدي
كاتب رأي