إرث إداري لا يحتضن القمم
محمد الفريدي
إرث إداري لا يحتضن القمم
يُعَدُّ العملُ في المجال الثقافي المتنوع والمتعدد في فروعه ومنابعه مصدرا للجمال، ومتنفّسا طبيعيا ، ونافذةً للمثقفين وعشاق الآداب والفنون والحضارة والتراث.
وتسعى الدول التي تحترم إرثها وشعبها إلى إبراز دورها الثقافي والحضاري بين الأمم، وتقديم مثقفيها كلوحةٍ فنية متقنة، مُزَيَّنةٍ بألوان زاهية وأُطُرٍ متماسكة بإتقان ووضوح، دون تداخل أو تشوُّش.
وفي وقتنا الراهن، نشهد توسعا ملحوظا في النشاط الثقافي وازدياداً في أعداد المهتمين بالأدب والثقافة، وهي ظاهرة إيجابية ومفيدة بلا شك، ولكن بشرط أن تتم تحت إشراف مختصين يمتلكون الخبرة والمعرفة في المجالات الثقافية المتعددة، ويراعون اختلاف القدرات، والتوسع الشامل لكل ما يعزز الثقافة والأدب واللغة والحضارة، بعيدا عن أي عناصر قد تسيء إلى هذا المجال أو تُخرجه عن مساره الصحيح.
من خلال عملي في المجال الإعلامي والثقافي، ورئاستي لتحرير صحيفة إلكترونية، وشغفي بالتأليف والثقافة والأدب، وكتابة القصة والشعر الفصيح والنبطي والمقالات بأنواعها، وقربي من الصحفيين والأكاديميين والنقاد والمثقفين، لاحظت ازدحاما غير مبرر على المنابر الثقافية والإعلامية من قِبَل أشخاص ليسوا من أهل الاختصاص ولا ممن يتمتعون بالموهبة إضافة إلى أن بعض الهيئات والجمعيات التي تهتم بالثقافة والأدب تُدار، للأسف، من قِبَل أشخاص لا يستطيعون إكمال ثلاث جمل دون أخطاء نحوية أو لغوية، ويحملون ألقابا وشهادات عليا تفتقر أحيانا إلى القيمة الأدبية والثقافية الحقيقية.
سؤالي لسمو وزير الثقافة على وجه الخصوص: لماذا نحرص على إجراء الفحوصات الطبية لموظف سيعمل كمراسل أو موظف في الاستقبال أو مأمور في الصادر والوارد، بينما لا نمنح نفس القدر من الأهمية لاختبار ثقافة من سيتولى إدارة العمل الثقافي، وهو من سيتعامل مع العقول المبدعة والذوق والجمال ومرآة للوطن؟
أليس من الأولى أن نبرز الفرق بين العمل في المجال الثقافي والأدبي وبين العمل في الجمعيات الخيرية، مع اعتزازي وتقديري للجهود القيّمة التي يبذلها العاملون في المجال الخيري لخدمة المجتمع؟
ألا يستحق العمل الثقافي، الذي يمثل واجهة الوطن وهويته الحضارية، أن يُدار من قِبَل أشخاص مؤهلين يمتلكون مواهب ثقافية وأدبية استثنائية وفهما عميقا للثقافة والأدب، ويستطيعون الارتقاء بمستوى هذا المجال بما يعكس تميز بلادنا الثقافي بين الأمم؟
نحن بحاجة ماسة، بكل صراحة ووضوح، إلى وضع معايير دقيقة لتولي المناصب في وزارة الثقافة، بحيث تستقطب الكفاءات الفكرية والأدبية الحقيقية العاملة حاليا في الميدان، بعيدا عن الألقاب والشهادات التي تفتقر أحيانا إلى عمق المضامين الفكرية والثقافية. فالعمل في المجال الثقافي ليس مجرد وظائف يتنافس عليها عدد من الموظفين ويفوز بها الأوسم، بل هو فن كأي فن يتطلب إبداعا ومتابعةً وتقييما مستمرا.
أما هياكل الإدارات والأقسام المتحجرة التي تعجز عن تقديم بلادنا بصورة ثقافية مميزة تتسم بالجودة والإبداع اللذين يليقان بتاريخنا وحضارتنا، فلا حاجة لنا بها من الأساس أبدا.
إن الناظر إلى المشهد الثقافي اليوم يلاحظ تباينا واضحا في مستويات العمل والأداء، ومدى الجدية في تقديم ما يليق بالأدب والثقافة واللغة العربية.
وأصبح البحث عن رعاة حقيقيين للمشهد الثقافي عبئا ثقيلا ووسيلةً يتقرب بها من لا يعرف عن الثقافة سوى امتلاء جيوبه بالمال، ولا يقدم منه سوى دعم مادي ضئيل جدا ، ويفرض تكريم شاعر أو كاتب مغمور من جماعته في الفعاليات التي يمولها وهو “داج يأكل من الرقع”.
وفي ظل غياب الرعاة الرسميين الحقيقيين وعدم توفر الدعم المالي الكافي من الوزارة، نجد كذلك تداخلا في أعمال الهيئات الثقافية، وافتقار بعضها لأخلاقيات العمل الثقافي، إضافة إلى التنافس المحموم في إقامة الفعاليات التي تُفسد جهود بعضها البعض ( و هذا يطبطب هنا وذاك يليّس).
ولا ننسى المحسوبية والشللية في العمل الثقافي والأدبي، بدءا من وزارة الثقافة التي تحتاج إلى مراجعة شاملة لسياساتها، وأنظمة الصرف والدعم، وآليات الرعاية، لضمان العدالة والمساواة في التعامل مع الجميع، فينبغي التركيز على دور الوزارة الإشرافي في مساعدة الهيئات الثقافية على تنفيذ خططها، واختيار موظفيها من الممارسين الحقيقيين للثقافة والأدب، ومن المتمسكين بالمبادئ والقيم، وعلى الجميع التحلي بالتواضع والانخراط في العمل الثقافي بروح المسؤولية الوطنية، وتقديم صورة مشرقة تعكس حاضر الوطن وثقافته دون تعالٍ على أحد، ودعم الأنشطة الثقافية الجادة ماديا ومعنويا ، فالثقافة ليست حكرا على أحد، والعمل الثقافي والأدبي مسؤولية جماعية تتطلب من كل فرد السعي لخدمة المجتمع وتعزيز قيمه الفكرية والحضارية والمشاركة فيها بجدية، ونُدرك تماما أهمية الدور الذي يؤديه المثقف الحقيقي في بناء الأمة، ودوره يكون في قلب توجهاتنا الثقافية المستقبلية، لنبني مجتمعاً ثقافيا يليق بتاريخنا ومكانتنا بين الأمم.
في ظل كل هذه التحديات التي يواجهها المشهد الثقافي اليوم، يجب أن نتخذ خطوات جادة لإعادة تنظيم العمل الثقافي ووضع ضوابط ومعايير واضحة تضمن أهلية من يتصدر منابرنا الثقافية أو يقوم بإدارتها أو يشرف عليها، ويحصل كل صاحب إسهام حقيقي على المكانة التي يستحقها، بعيدا عن المحاباة والمجاملة والمناطقية ، ونعمل على إنشاء برامج لدعم الكوادر الشابة والموهوبة لتأخذ فرصتها في التعلم والنمو والإبداع والشهرة تحت إشراف مختصين من الوزارة وأصحاب الخبرة، فمستقبل الثقافة في أي بلد يعتمد على تكاتف الجهود ودعم الثقافة بما يسهم في ارتقاء المجتمع، ونشر إرثه الثقافي، وصون لغته وأدبه، وتوفير مساحة كافية لكل من لديه ما يقدمه لإثراء المشهد الثقافي حتى يبقى الأدب والثقافة مرآتان تعكسان رقي وجمال هذا الوطن.
كاتب رأي



لاحظت هذا الازدحام منذ فترة طويلة ، و مايدفعهم هو البحث عن الأضواء والشهرة
حتى لو كانوا لا يملكون الأدوات اللازمة لذلك..
قيل في أمثال الأوّلين ” افتح فمك يرزقك الله ”
و هذا ديدنهم
الأهم و المهم أنّ نار الثقافة و الأدب لن تخبو طالما تحملون قبسها أستاذنا الكريم..
بوركتم
أشكركِ أستاذة هند على كلماتكِ الطيبة. فعلا، لاحظتُ هذا الازدحام أيضا، وأعتقد أن البحث عن الشهرة هو دافع للكثيرين كما ذكرتِ، ولكن للأمانة هناك من يحملون قَبَس الثقافة والأدب بصدق وإخلاص، ويستحقون الشهرة والأضواء.
تحياتي.
الكاتب المبدع الأستاذ / محمد الفريدي مقالك هذا يعكس رؤية عميقة وفهما دقيقا لواقع العمل الثقافي وأهمية التمييز بينه وبين القطاعات الأخرى .
لقد قمت بتسليط الضوء على نقطة محورية يغفل عنها الكثيرون، وهي ضرورة الاهتمام بالكفاءات الثقافية والإبداعية عند اختيار القائمين على هذا المجال الحيوي. بحديثك عن أهمية اختبار ثقافة الشخص الذي سيدير العمل الثقافي ،
لقد قدمت طرحا حيويا يعكس الوعي بدور الثقافة في تشكيل الهوية الوطنية وتأثيرها العميق على المجتمع. إنك لا تكتفي فقط بالحديث عن الواقع، بل تبادر بتقديم حلول وطرح أسئلة تنم عن حرصك على تحسين المشهد الثقافي وتحقيق التميز في إدارة العمل الثقافي👍.
أستاذة ابتسام الجبرين ..
أشكرك جزيل الشكر على هذا التعليق الذي يعكس اهتمامك الواضح بقضايا العمل الثقافي، ويسعدني أنك وجدت في المقال طرحا هادفا ومهما يسلط الضوء على أهمية تمييز الثقافة كمجال حيوي مستقل عن بقية القطاعات الأخرى، والحاجة للاهتمام بالكفاءات التي تمتلك المعرفة والوعي الكافي لإدارة المشهد الثقافي .
تقديرك لفكرة التحقق من ثقافة المسؤولين عن إدارة الشؤون الثقافية يؤكد على أن الثقافة ليست مجرد إدارات و أقسام ومهام روتينية وواجبات والسلام ، بل هي جزء لا يتجزأ من هوية مجتمعنا وتشكيل وعيه، وأقدر تقديرك لهذه الرؤية، حيث يبقى هدفي ككاتب رأي ليس فقط في طرح تساؤلات حول واقع الثقافة، بل في المساهمة ولو بالقليل في تحسين بيئتنا الثقافية وتعزيز دورها الحيوي.
أشكرك مرة أخرى سيدتي على تفاعلك الكريم، وأتمنى أن يستمر النقاش والتفاعل لتقديم المزيد من الأفكار التي تسهم في تحقيق الطموحات المشتركة نحو مستقبل ثقافي مشرق .. تحياتي
أخوكم / أبو سلطان
الزميل الأستاذ محمد علي الفريدي رئيس التحرير والكاتب الصحفي، لقد أصبت الهدف في مقالك عن الثقافة، فهي في مضمونها الأدبي الإجتماعي، جزء لا يتجزأ من القيم والعادات والتقاليد المتعارف عليها، فلا زلت أتذكر بأن أبناء جيلي، ممنوع عليهم إرتداء بعض الملابس، بالرغم من كونها لا تخرج عن نطاق الحشمة، ولكن هناك متغيرات حديثة تأثرت بها أجيال اليوم، وذلك نتيجة عدة مؤثرات منها القنوات الفضائية، وهي جزء لا يمكننا تجاهله، ومع هذا نأخذ ماطاب لنا منه، بغية التنوع الثقافي، كونه نقطة انطلاق مشترك، تجمع الأنماط الإنسانية، وهذا يقودنا لاحترام أفكار الأجيال الحالية، برؤية مستقبلية متجددة، مع الإعتماد على التوجيه، دون إلزام مُنَفِّر، وهنا تبرز مسؤولية الأسرة، وبقية مؤسسات التعليم، وأهمية وسائل الإعلام، ومصادر الثقافة، واستثمار المتاح من وسائل الترفيه الأسري المنظم، الذي يراعي الحاجات النفسية، بما يتيح للأبناء إشباع حاجاتهم.
وكزميل تربطني بك وبقية الزملاء والزميلات، رسالة الإعلام المشتركة، فإن مخاطبة سمو وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، من خلال سلسلة من المقالات التي ترى أنها تخدم الجانب الثقافي، أو مادة صحفية كاستطلاع صحفي، يشارك فيه مجموعة من كتاب وكاتبات الرأي، في صحيفة آخر أخبار الأرض الإلكترونية، بأنه مشروع وطني يضع بصمة واضحة في تاريخ الثقافة والموروث السعودي، مع أطيب تحياتي،،،
أستاذنا الكبير محمد حامد الجحدلي..
أشكرك بصدق على ردك الثري والمليء بالعمق والتحليل حول موضوع الثقافة وتحدياتها، ومن الرائع أنك سلطت الضوء على التحولات الكبيرة التي شهدتها الأجيال عبر الزمن، وخاصة تأثير المتغيرات الحديثة التي حملتها وسائل الإعلام والتكنولوجيا والتي ساهمت في تشكيل قناعات جديدة ومختلفة عمّا كان عليه الحال في الماضي.
أتفق تماما معك سيدي على أهمية التنوع الثقافي كعنصر أساسي لبناء مجتمعات متماسكة ومتنوعة، وعلى ضرورة التوجيه المرن بدلا من الإلزام الذي قد يُنفّر الأجيال.
فكرة مخاطبة سمو وزير الثقافة من خلال سلسلة مقالات هو بالفعل مقترح جدير بالتأمل، وأراه إضافة قيّمة لتعزيز الحوار حول القضايا الثقافية والارتقاء بدور الإعلام كجسر يصل بين تطلعات المجتمع والجهات المعنية.
أشكرك مجددا على أفكارك وآرائك التي تشكل قيمة حقيقية لمشهدنا الثقافي والإعلامي وتقبل فائق تحياتي .
أخوكم / أبو سلطان