أوروبا تشتكي من الإسلام وتنسى نفسها

محمد الفريدي
أوروبا تشتكي من الإسلام وتنسى نفسها
حذّر الكاتب الإسرائيلي موشيه نستلباوم الغرب في مقال له نشرته صحيفة “معاريف” الإسرائيلية، وتم تداوله في وسائل إعلام عربية، ومقاطع فيديو على الـ YouTube، من تصاعد الوجود الإسلامي في أوروبا، وعبّر عن قلقه الشديد من فقدان القارة الأوروبيّة لهويتها أمام المآذن والحجاب والمساجد، وقال بكل وضوح: “أوروبا تفقد هويتها، والإسلام يسيطر”، وكأن الإسلام هو الخطر الأكبر الذي يهدد الغرب.
كما قال: “إن الإسلام لم ينتشر في أوروبا بالغزو، بل بالهجرة والولادة، واستغل الفراغ الروحي بعد تراجع الكنيسة، فوجد مناخا حرا لممارسة شعائره”.
ومع ذلك، يبقى السؤال: هل الإسلام يهدد أوروبا فعلا، أم أن أوروبا تواجه أزمة داخلية تُسقَط على الإسلام؟
أوروبا بالتأكيد لم تعد متأكدة من هويتها؛ فقد تنقلت من المسيحية إلى العلمانية، ومن القومية إلى الوحدة، ومن القيم إلى السوق، والإسلام فيها ليس غريبا، بل مرآة تعكس أزمتها.
يقول نستلباوم: إن المسلمين لم يسيطروا على أوروبا بقوتهم، بل بضعف الأوروبيين أنفسهم. فهم لا ينجبون، ولا يعتزون بدينهم، بينما المسلم أكثر تمسكا بقيمه ودينه، ويتغافل عن أن غالبية المسلمين في أوروبا يعيشون حياة طبيعية، يعملون، ويربّون أبناءهم، ويشاركون مجتمعاتهم.
فلم يرفع المسلمون هناك رايات الخلافة، ولم يخططوا لإسقاط الديمقراطية، ومع ذلك يُصوَّر وجودهم كتهديد، في امتداد لصورة رسّخها المستشرقون القدامى.
وتحذيرات نستلباوم ليست فقط ضد الإسلام، بل ضد فكرة أوروبا متعددة الثقافات.
يتحدث عن “هوية أصلية” مهددة بالانقراض، وكأن أوروبا لم تكن يوما مزيجا من الأعراق والمعتقدات منذ قرون مضت.
نعم، هناك مشكلات في الاندماج، لكن تعميمها على جميع المسلمين خطأ جسيم. فالمسلمون ليسوا دخلاء، أجيال وُلدت هناك، تحمل جنسيات البلدان الأوروبية المختلفة، وتشارك في صنع مستقبلها وحمايتها، ولا يمكن استبعادهم من المشهد دون أن تخسر أوروبا جزءا من إنسانيتها.
الإسلام أصبح جزءا مهما من النسيج الأوروبي، لا طارئا عليه، وأوروبا الجديدة تتشكل الآن، بهوية هجينة مختلطة، تتجاوز الانغلاق، وتقبل بالتنوع والانفتاح.
وإذا كانت القيم الإسلامية تُمارس دون صدام، فهذا ليس تهديدا، بل فرصة لإثراء المجتمعات الأوروبية.
أوروبا التي يخشاها نستلباوم اليوم هي أوروبا المتغيرة، الباحثة عن هوية تتجاوز الماضي.
أما الإسلام الذي “يسيطر”، فليس سوى حضور قيمي يملأ الفراغ الذي خلّفته العلمنة والاستهلاك المفرط لقيم الإنسان.
من يخشى الإسلام، وعلى رأسهم نستلباوم، عليهم أن يسألوا أنفسهم: ما الذي فقدوه حتى أصبح الإسلام مغريا للبعض؟
الإسلام لا يغزو، الإسلام يملأ فراغا هم تسببوا فيه أولا وأخيرا.
الأزمة الحقيقية ليست في الإسلام، بل في الفراغ الروحي والأخلاقي الذي تعيشه أوروبا.
والسؤال الأهم: هل ما زالت أوروبا تؤمن بشيء يستحق الدفاع عنه؟
علاقة أوروبا بالإسلام ليست طارئة ولا جديدة، بل تعود إلى الأندلس، والحروب الصليبية، والخلافة العثمانية، والاستعمار للدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية.
والذاكرة الجماعية لا تنسى، واليوم، ومع تزايد المسلمين في قلب أوروبا، تعود هذه الذاكرة لتثير فيهم هذا السؤال من جديد: “من نحن؟”.
المجتمعات الواثقة من نفسها وقيمها لا تخشى التنوع، أما المجتمعات المرتبكة، فتلجأ إلى خلق عدو افتراضي.
ومن يبكي اليوم على المسيحية الأوروبية المندثرة نسي أن الأوروبيين هجروها، وباعوا كنائسهم، بينما المسلمون ما زالوا متمسكين بمساجدهم وصلواتهم.
جيل المسلمين الجديد في أوروبا مختلف تماما، فهو لا يتبع الشرق، ولا يخضع للأنظمة العربية، ويؤمن بـ “إسلام أوروبي” متصالح مع الديمقراطية الأوروبية، ويرى حقوق الإنسان امتدادا لقيمه الدينية، لا تهديدا لها.
هذا الجيل الجديد لا يرى في ذاته حالة طارئة، بل يرى نفسه جزءا من مستقبل القارة، ويطالب بتصحيح الرواية التاريخية التي ظلت لعقود تصوّره “دخيلا” أو “متطفلا”.
فهم يتحدثون اليوم بلغات أوروبية، ويتفوقون في جامعاتها، ويساهمون في بناء اقتصادها، ويخدمونها طبيا وأكاديميا وتقنيا وعسكريا، لكن رغم كل ذلك، لا يزالون موضع ريبة وشك.
الخطر الحقيقي على أوروبا لن يأتي من الإسلام، بل من داخلها: من العنصرية، والتطرف، وانهيار القيم بعد تآكل النموذج الليبرالي الذي كان موجودا قبل نحو قرن من الزمن.
ولهذا فإن تحذيرات نستلباوم ليست دعوة بريئة للنقاش، بل وقود لخطاب الكراهية، وتعميق للانقسام، وتخويف للناس من المختلف بدل أن يدعو إلى فهمه والتعايش معه.
الإسلام لم يفرض نفسه بالقوة على أوروبا، بل وجد فيها مكانا، وإذا كانت تريد مستقبلا موحدا، فعليها أن تتقبل شركاءها الجدد، لا أن تحاربهم.
لكنّ أوروبا كما يبدو لي لا تبحث عن الحقيقة، بل تبحث عن شماعة، والإسلام، كالعادة في خطاب الغرب، هو المرشح الدائم للعب دور “الخطر الداهم”.
والمشكلة ليست في أعداد المسلمين، بل في عجز أوروبا عن التعايش مع واقع لم تعد تتحكم فيه وحدها.
وأوروبا، التي كانت تبشّر لعقود بالحرية والتعدد والانفتاح، تسقط اليوم في اختبار المبادئ أمام حجاب امرأة أو دعاء إمام في مسجد بعيد.
في الحقيقة، لا يهدد الإسلام أوروبا، ما يهددها هو خوفها الشديد من التغيير.
أوروبا خائفة من نفسها، من انهيار نموذجها الليبرالي، من شيخوخة حكوماتها ومجتمعاتها، من فقدان بريقها الثقافي.
ولهذا، تبحث عن عدو خارجي تلقي عليه كل فشلها الداخلي.
والمسلم صار هو “الآخر” المريح الذي يبرر كل سياساتها الإقصائية والقمعية لتشعر بالانتصار والارتياح.
الاندماج؟!
كلمة جميلة في النظريات الأوروبية فقط، لكن على أرض الواقع، المسلم الأوروبي مطالب بأن يعتذر عن دينه، و أن يبرّر وجوده، و أن يقدّم فروض الولاء يوميا دون أن يُعترف به أبدا كمواطن كامل الحقوق والواجبات.
حتى الجيل الثاني والثالث، الذين لم يعرفوا وطنا غير أوروبا، يُعاملون كغرباء عند كل أزمة.
ما يثير السخرية حقًّا هو أن أوروبا تشتكي من أن المسلمين لا يندمجون فيها، بينما تقيم حولهم أسوارا من الشك والريبة والتمييز، وتطلب منهم احترام قيمها، وفي المقابل لا تحترم خصوصيتهم، وتريد منهم أن يذوبوا فيها، لا أن يعيشوا بشخصياتهم المستقلة.
الخطر على أوروبا اليوم ليس في الإسلام، بل من أوروبا التي تنقلب على مبادئها التي تدّعي الليبرالية وتخشى صوت الأذان، التي ترفض العنصرية على الورق وتغذيها في المدارس والشوارع وصناديق الاقتراع.
جيل المسلمين الجديد لم يعد يتوسل القبول، فهو يعرف أن الغرب متناقض، يُبشّر بالحقوق ويمنحها بانتقائية، ومع ذلك، لا يسعى للهروب أو العزلة، بل لإعادة تعريف مكانه في مجتمع لا يريد أن يعترف به أصلا.
ولعل السؤال الذي يجب أن يُوجَّه لأوروبا هو: كم من الوقت تستطيع أن تتظاهر بأنها حامية القيم، بينما تفشل في احترام أبسط صور العدالة؟
الإسلام لم يأتِ محتلا، بل جاء زائرا، فأُهين، وبقي فيها مواطنا، فقُوبل بالشك والريبة، ومع ذلك، ما زال يقدم في الغرب وجّها انسانيا مشرقا، في عالم يتراجع فيه الإنسان.
لكنّ أوروبا تغفل عن أن الإسلام لا يتمدد في فراغ، بل في مجتمعات فقدت بوصلتها القيمية والأخلاقية.
والغرب الذي كان يفاخر بنموذجه الحضاري، لم يعد قادرا على تقديم إجابات مقنعة للأجيال الجديدة، فوجد البعض في الإسلام منظومة بديلة تمنحهم التوازن النفسي، والمعنى الحقيقي للسلام والانتماء والحياة.
والمشكلة لا تكمن في الإسلام كدين، بل في النظرة الغربية المشبعة بالانحلال والفوقية والشك والخوف من كل ما هو مختلف.
هذا الخوف المتراكم لا ينبع من خطر حقيقي، بل من أزمة هوية خانقة في عالم غربي غريب لا يؤمن بدين.
إن الحديث عن اندماج المسلمين يُستخدم كغطاء لفرض الذوبان الثقافي، بينما الاندماج الحقيقي هو احترام الخصوصيات ضمن الإطار المشترك للمواطنة.
فأوروبا لا تُهدَّد بحجاب، بل تُهدَّد حين تختار الإقصاء بدل الاستيعاب، والتخويف والتخوين بدل الحوار.
إن الاعتراف بالإسلام كمكوّن أوروبي أصيل، لا طارئ، هو بداية تجاوز هذا الصراع المفتعل الذي يحاول أمثال موشيه نستلباوم افتعاله والترويج له.
فبدلا من أن تتوجس أوروبا من صوت الأذان، لِمَ لا ترى فيه جزءا من نسيجها الاجتماعي الجديد؟
ومستقبل أوروبا لن يُبنى على الخوف، بل على التعددية، ولن تحمي هويتها بإقصاء الآخرين من أبناء شعبها، بل بالثقة في نفسها، وفي قدرتها على التعايش مع مختلف الأعراق والأديان.
بارك الله قلمك أستاذنا الكريم
مقال رائع