كُتاب الرأي

أمريكا في جيب مقامر مجنون

محمد الفريدي

أمريكا في جيب مقامر مجنون

في مقاله الأخير بصحيفة نيويورك تايمز، يرسم توماس فريدمان صورة عبثية لرئاسة دونالد ترامب، مقدما إياه كرئيس يدير أمريكا كما لو كان يجلس في كازينو بلاس فيغاس، لا برؤية متماسكة أو خطط استراتيجية، بل بدوافع مزاجية متقلبة تنقلب من موقف إلى نقيضه في أي لحظة.

في هذا المشهد الفوضوي، تبدو أمريكا وكأنها تُدار من مقامر متهور، يراهن بمستقبلها، ويتعامل مع الدولة الأكثر نفوذا في العالم كأنها طاولة قمار لا تعرف غير الحظ والمكابرة والمكسب والخسارة.

فريدمان، في مقاله، يسخر من تقلبات ترامب اليومية، ويسميها “صفقة تاكو”، في إشارة إلى قراراته المتهورة وتراجعاته المتكررة، كفرض تعريفات جمركية على بعض الدول ثم إلغائها، أو تهديد الحلفاء ثم مدحهم، وملفات الأمن الدولي والاقتصاد العالمي يديرها بنفس الخفة التي يطلب بها وجبة سريعة من مطعم للوجبات الجاهزة.

سياسة ترامب، كما يصورها فريدمان، لا تُبنى على رؤى مستقبلية بل على رغبات لحظية؛ سياسة تقوم على ردّات فعل لا على استراتيجيات، تُدار بعقلية قائد“عربة طعام متنقلة”، تتوقف حيث يعلو الزحام والصخب وتغادر حين يهدأ الضجيج، غير مكترثة بما تتركه من فوضى وتبعات تمس العالم أجمع.

في هذا السياق، لا يظهر ترامب كرئيس جمهورية، بل كمدير تنفيذي لشركة عائلية يرى الدولة من البيت الأبيض امتدادا لأعماله العقارية، ويقيس نجاحه بعدد الصفقات التي تخدم صورته وتضخم رصيده السياسي، حتى لو تعارضت مع الدستور والقيم الأميركية أو هددت استقرار العالم.

يعين أصدقاءه في مناصب سيادية، ويقيل الكفاءات منهم دون مقدمات في اليوم التالي، ويتقلب في علاقاته الخارجية بحسب مزاجه اليومي، من صداقة إلى عداوة في أيام، كل ذلك يُدار من خلف شاشة هاتفه، ويصوغ سياساته ويطلق تهديداته ويبرم وعوده وينهي تحالفاته، بتغريدة واحدة لا تعبأ بكلفة حرب ولا سلام.

في عالم يُفترض أن تحكمه المؤسسات والقوانين، يظهر ترامب كممثل جامح، يغيّر مشاهده كلما انخفضت نسب مشاهداته، لا يطمح لبناء تاريخ أو صناعة إنجاز، بل للفت الأنظار وإثارة الجدل.

يتحول من رئيس دولة عظمى إلى نجم استعراضي، يرى في أمريكا مسرحا يتبادل فيه الأدوار، ويُضخَّم فيه الانفعال، وتُدار فيه الأمور بعقلية مدير سيرك لا بعقلية رجل دولة، يبحث عن التصفيق لا عن التغيير، ويتجنب تحمّل المسؤولية.

لا يسير في خط مستقيم، بل يدور في دوائر تضج بالصخب، تقودها شهوة السلطة وهاجس الظهور، يختلق المعارك ليظل في دائرة الضوء، ويغذي الانقسام ليستمر في مركز الحدث.

في رؤيته، استقرار العالم خطر يهدد نجوميته، أما الفوضى، فهي الوقود الوحيد لبقائه في المشهد.

ترامب رجل اللحظة العابرة، يُبدد هيبة دولته في زوايا نزواته، ويدير السلطة كما يدير حسابه في تويتر: بانفعال لا يهدأ ومزاج لا يمكن التنبؤ به.

يختزل الدولة في ذاته، ويحوّل قراراتها إلى ردّات فعل، ويخوض السياسة كما يخوض الصفقات العقارية: باندفاع، وتهديدات، وارتجال لا يفضي غالبا إلى شيء.

الخطير في نموذج ترامب ليس شخصه فحسب، بل قابليته للتكرار، خاصة في أنظمة لا تعرف الديمقراطية، حيث يصبح الحاكم الأوحد قاعدة لا استثناء، وتُدار الدولة بالرغبات، ويُرهن مستقبلها بتغريدة أو مزاج عابر.

حين يصبح الكذب مهارة، والارتجال فضيلة، وتضارب المصالح مجرد “أسلوب”، فإن الباب يُفتح أمام طغاة أكثر خفة وأشد خطورة.

وإذا كانت أمريكا، بكل مؤسساتها، عجزت عن كبح جماح ترامب، فماذا عن دول لا تعرف من الدولة سوى اسم زعيمها؟

هذه ليست قصة داخلية أمريكية، بل تحذير عالمي من السقوط في فخ الزعامة المطلقة، حيث تُباع الأخلاق في بورصة التحالفات، ويُشترى الصمت بالوعود، ويُغلف القتل بخطابات رسمية تتحدث عن الأمن والسلام.

في ظل الدم النازف في غزة، يتضح أن الخطر لم يعد مجرد خطاب، بل بات سلوكا يبرر القتل، ويرى في المجازر أدوات تفاوض، وفي آلام الشعوب أوراق ضغط.

وربما لا تظهر تناقضات ترامب كما تظهر في علاقته بإيلون ماسك، أغنى رجل في العالم. فبعد أن دعمه ماسك في حملته الانتخابية، عاد ترامب ليهاجمه علنًا ويصفه بالجحود، فقط لأنه لم يستمر في تأييده أو لم يساير نرجسيته المفرطة.

في عالم ترامب، لا يكفي أن تدعم، بل يجب أن تظل تردد صداه بلا توقف.

رأى في ماسك حليفا حين احتاجه، وعدوا حين لم يُصفق له كما يشتهي.

هذا التناقض لا يكشف فقط عن مزاجيته، بل عن فلسفة شخصية تُخضع الولاء للأنانية، وتقيس العلاقات لا بالمبادئ، بل بمقدار التطبيل.

العالم لا يحتاج فقط إلى تقييد ترامب، بل إلى تحصين نفسه من عدوى نموذجه السياسي السيئ، ومن اختزال الدولة في شخص، وتحويل الدبلوماسية إلى سوق للصفقات، وتحويل الحقائق إلى مسرحيات هزلية.

ترامب ليس رجل دولة، بل تاجر مزاجي، يتحدث أكثر مما يُفكر، يتراجع أكثر مما يتقدم، لا يقيس مواقفه بتكلفة القرار بل بالصور والعناوين الإخبارية.

شعاره الذهبي: “اربح الصورة ولو خسرت كل شيء”.

لا يؤمن بالمفاهيم التقليدية للقيادة، بل بمنطق “اضرب أولا واعتذر لاحقا”، وهو المنطق الذي حكم به شركاته، ويحكم به الآن أمريكا.

تناقضاته ليست طارئة، بل متجذّرة. يصف بوتين بالعبقري صباحا، ويصفه بالمجنون مساء، يناصر أوكرانيا في خطاب، ويبتزها في خطاب آخر.

يرفع شعار “أمريكا أولا”، ثم يضعف صناعتها الاستراتيجية بإجراءات عشوائية تهدد البحث العلمي وسلاسل الإمداد.

في ولايته الأولى، كانت هناك بعض الكوابح، أما الآن، فكل شيء مُطلق: القرارات تُصنع في نادي الغولف، والمصالح تُدار من تحت طاولة مكتبه البيضاوي، والمناصب تُوزع على المصفقين له.

خذ مثلا سياسات التعرفة الجمركية التي أعلنها دون دراسة: قرارات أضرت بالاقتصاد الأمريكي أكثر مما أفادت، أضافت وظائف معدودة ودمرت عشرات الآلاف، لأنه ببساطة لا يُدرك أن من يستخدم الصلب أكثر ممن يصنعه.

سياساته لا تعرف منطق “فكر ثم قرر”، بل “قرّر ثم تراجع” ، فوضى تُدار بانفعال، لا بمنطق، يُكافئ فيها الولاء لا الكفاءة، ويصوغ فيها تحالفات لا تُبنى على القيم بل على المصلحة اللحظية.

ولعل القضية الفلسطينية أبرز الأمثلة على عبثيته.

“صفقة القرن” لم تكن مشروع سلام بل مشروع تصفية، طرحها كحل لكنه حمل في طياته تهجيرا وتصفية لمطالب شعب كامل.

أما مشروع غزة الأخير – المطروح في أروقة حلفائه من الصهاينة – فهو محاولة لتحويل الأرض إلى استثمار أو مستوطنة، دون الاعتراف بأي حق أو وجود تاريخي للفلسطينيين.

في خطابه، يدّعي دعم الحريات، لكنه يدعم المجازر، ويحتقر الصحافة، ويلاحق المهاجرين، ويهدد القضاة، ويرى التعليم ترفا، ويعيّن في وزارة التعليم من لا يفرّق بين الذكاء الاصطناعي وصلصة الكشري.

إنها ليست عثرات فردية، بل فلسفة حكم تعيد تعريف السياسة الأميركية بمعايير تاجر عقارات.

لا يؤمن بالمؤسسات، ولا بالخبراء، ولا بأي تجربة أو مبدأ، بل فقط بالصورة الأولى والانطباع الأول؛ لأنه لا يحكم كزعيم، بل يتصرف كرئيس مهووس، يريد أن يُصفّق له الجمهور حتى وهو يشعل المسرح بمن فيه، غير مبالٍ إن كان الحريق يلتهم الضعفاء أو يحرق الحقيقة.

يرى العالم سوقا، ويقيس القضايا الإنسانية بالعائد المادي لا بالحق، ولا يسأل عن الأثر، بل عن الكيفية التي سيبدو عليها على الشاشة.

ولهذا، فإن الخطر لا يكمن في شخصه فحسب، بل في النمط السياسي الذي يشجعه: حكم بلا محاسبة، وقرارات بلا عقل، وأوهام تُسوّق على أنها إنجازات.

إن أكبر تهديد يواجهه العالم اليوم ليس ترامب ذاته، بل إلهامه لنمط زعماء يعتبرون الكذب مهارة، والصخب قوة، والانقسام استراتيجية.

وفي العالم العربي الهش، تتحول هذه النماذج إلى قدوة لمن يحلم بالسلطة دون رادع، ويرى في الفوضى طريقا إلى المجد.

لهذا، فإن خطر ترامب الحقيقي ليس في أنه يقرر، بل لأنه يُلهم.

يُلهم كل من يرى في التهريج بطولة، وفي التخبط سياسة، وفي الكوارث مواد دعائية.

سنكتب، ونفكك، ونفضح، وننشر الوعي؛ لأن معركتنا اليوم ليست مع يسار أو يمين، بل مع عقل يقرأ وفم يصرخ، ورئيس دولة عظمى مجنون ينتقل من سياسة إلى نقيضها في دقيقة.

لن نسمح للفوضى بأن تتحكم فينا، وسنظل صامدين حتى يعود العقل إلى قيادة القرار، وتنتصر الحقيقة على عبث ترامب، قبل أن يتحول جنونه إلى واقع، ويدفع العالم ثمنه دما وكذبا، وحروبا وفوضى.

كاتب رأي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى