أريد هواء لأتنفس

ابتسام عبدالعزيز الجبرين

من منا لم يمر عليه شعور فقد عزيز على قلبه ؟!
ولولا ثقتنا برحمة أرحم الراحمين ، لقتلنا الحزن على فراقهم ….

كان يوم في حياتي لا ينسى أبداً ، يوم إعلان خبر ” الفقد الموجع ” بوفاة قطعة قلبي ( أمي )
تلك اللحظات المؤلمة لم ولن أنساها ما حييت ،

في ذلك اليوم الحزين اجتمعنا عند باب ” العناية المركزة ” بالمستشفى وقلوبنا ترجف بين ( الأمل والألم ) لعل أحد الأطباء يخرج ليبشرنا بعودة النبض لقلب أمي ،
كانت دقائق ولكننا من فرط الإنتظار نحسبها ساعات طوال ،
نسجد على أرض المستشفى ، و دموعنا تسبقنا بالسقوط على الأرض ،
وفي هذا الأثناء يخرج من عند والدتي ثلاثة أطباء ( من أطباء الإنقاذ ) متوجهين إلينا أنا وإخوتي وهم يمشون بخطى متثاقلة ونظرات أعينهم كانت للأسفل ،
ولكنني لا شعورياً ابتعدت قليلاً خطوات للوراء ، وأنا أرمقهم ، فقد شعرت بأن هناك خبر مؤلم من هيئة وجوههم ….
شاهدتهم من بعيد قالوا شيئاً ما لأخواتي ، ثم أيقنت بالخبر المؤلم على صراخ أخواتي ، وعرفت الحقيقة المرة التي كنت لا أرغب بسماعها .
أسندت رأسي على الجدار أبكي بحرقة ، وقد فاضت عيني بالدموع ، فلم أعد أشاهد أمامي إلا ضباب ورؤية غير واضحة وكأنني في حلم ( ياليته كان حلم منام ) تمنيت ذلك .
أرى من حولي إخوتي وأخواتي مابين مصدق ومكذب ، كل منهم اتخذ حائطاً في المستشفى يبكي عليه ، وهناك أختي تبكي و تمشي بكل إتجاه ، ولا تعلم أين هي وجهتها ! .
” كانت ليلة أشبه بالحلم ” .

الزوار في المستشفى إلتموا حولنا لمواساتنا ، وهم يرددون كلمات ( والله لم أعي منها شيئاً ، ولم أسمع منهم مايقولون )
فسمعي وبصري وعقلي كان مغلقاً تماماً ،
فليس أمام عيني إلا وجه أمي ، وليس على مسامعي إلا كلمات أمي التي ترددها ( أريد هواء لأتنفس )
نعم هذه الكلمات قالتها أمي جواباً على سؤالي حين قلت لها : أمي أطلبي أي طلب وسأحضره لك الآن حالاً مهما كان صعباً ، هيا أطلبي ، ماذا تتمنين يا أمي ؟
لأتفاجأ بجواب غير متوقع _ هز أركاني _
حيث قالت : أريد هواء لأتنفس ! ..
أمي في تلك اللحظة لاتريد من مطالب الدنيا شيئا ، فقد كانت أعز أمنياتها فقط أن تجد هواء لتتنفس !!
هيهات بين مانفكر به وما تفكر به أمي في تلك اللحظة ،
_ أمنيات أمي في الشرق ونحن في الغرب _
آه يا أمي ، يا لها من أمنية عزيزة جداً ، نحن نملكها جميعاً بسهولة ، وما أصعب توفيرها لك يا أمي .

[ أريد هواء لأتنفس ] تلك العبارة المؤثرة ، نزف بها قلبي دماً ، عبارة لم تغب أبداً عن ذهني حتى اللحظة ،
ما أصبر قلبي !! ،
ولكن عزائي أن رحمة ربي وسعت كل شيء ، فهو أرحم من الوالدة بولدها ،
_ نعم تذكرت ذلك _ وقلت في صحوة عقل : نعم ( الهواء ، الهواء ) ،
الهواء من نسيم الجنة يا أمي ،
الفرج أتاك يا أمي بإذن الله وبرحمة الله ،
رددت هذه العبارة وأنا أمام باب العناية المركزة في المستشفى ..

بكيت كثيرا وعادت بي الذاكرة للوراء في آخر لقاء بأمي على سرير العناية المركزة ، ومع صوت الموظفين بالمستشفى وهم يرددون ( انتهت الزيارة )
تذكرت قبضتها على يدي بقوة وكأنها تقول : لا تغادري يا أبنتي فلن أراك بعد اليوم ،
مسكت بيد أمي ولأول مرة أشعر بقلة الحيلة ، وعدم قدرتي على تقديم المساعدة لأمي ، بكيت بقهر شديد ، والموظف يكرر وبصوت مرتفع : انتهت الزيارة ، بسرعة يا أختي الله يرضى عليك ،
ولكن أمي تفبض يدي بقوة : لا تتركيني ،
ولأول مرة لا أطيع أمي ، وأنا أحاول أن أفلت يدي منها بهدوء وبشكل تدريجي ، رغم تمسكها بي بقوة ، وأنا أردد : تباً لتلك الأنظمة التي تحول بيني وبين قطعة قلبي ” ..

فارقتها وقلبي يعصر ألماً ، ولم أكن أعلم أن تلك الزيارة هي الأخيرة .

أحداث ليلة وفاة أمي كانت حقاً أشبه بحلم ” كابوس ”

كل شيء ضاع من يدي دون أن أشعر .

بحثت عن هاتفي النقال لأخبر أقاربي بوفاة والدتي ، ولكن لم أجده في يدي ولم أجد حقيبتي ، … فقدتها بين التردد في أروقة المستشفى ، ولأول مرة لا أعبأ ولا أهتم بفقدان هاتفي رغم احتواءه على أهم الملفات ،
نعم .. ببرود شديد جدا قلت في نفسي : لقد ذهب من هو أغلى من هاتفي ، ذهبت أمي التي من أجلها أستخدم الهاتف لأطمئن عليها .

مرت أيام ، وما كدت لأتخطى ذلك الحزن إلا وينزف قلبي من جديد ، حين قمت كعادتي بتصفح هاتف أختي _برضاها طبعا _ فوجدتها قد كتبت في بحث قوقل : ( هل هناك حالات عن أموات عادوا للحياة مرة أخرى بعد الدفن ؟) .

صبر الله قلبي وقلبك أخيتي فلا زال الأمل موجوداً لديها بعودة أمي للحياة ! …
اللهم ارحم أمي برحمتك الواسعة وارحم ضعفها واسكنها الجنة ووالدي من غير حساب ولا سابق عذاب ، وجميع موتى المسلمين ، وصبر قلوبنا على فراقهم .

( كاتبة ومؤلفة )