كُتاب الرأي

أرحنا بها يا بلال

أرحنا بها يا بلال

في زمن أصبح فيه الكل يتحدث عن التشافي، عن استعادة الذات، عن شفاء الطفل الداخلي وعن محاولات لا تنتهي لترميم أرواحهم المكسورة، في زمن نجد فيه الكثير يقدم الدورات والاستشارات التي تعدنا بأننا سنجد السلام الداخلي ونتخلص من كل ما يؤرق نفوسنا. ولكننا ننسى أن أعظم طريق للشِّفاء قد فُتح لنا منذ قرون. ننسى أن الرحمة التي نبحث عنها بأيدينا، نزلت إلينا من السماء بينما ينادي الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك النداء الحنون: “أرحنا بها يا بلال”.
حين قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: “أرحنا بها يا بلال”، كان يعلّمنا أن الراحة الحقيقية، والسكينة العميقة، والتشافي الجذري، لا تُطلب من الناس، بل تُطلب من السماء، من تلك اللحظات التي يسجد فيها القلب قبل الجسد، وتشفى فيها الروح قبل الجراح. الصلاة ليست فقط حركات جسدية أو تكرار كلمات، بل هي انتقال من ضيق الدنيا إلى سعة رحمة الله. من اضطراب النفس إلى سكون القلب. هي الجسر الحقيقي الذي تعبر به أرواحنا من التعب إلى الطمأنينة.
الصلاة لقاء. الصلاة حضنٌ رباني، نُلقي فيه عن كاهلنا كل أوجاعنا، ونضع بين يدي خالقنا كل تعبنا وخيباتنا.
بينما يفتّش الناس اليوم عن جلسات التأمل والتنفس العميق، ويبحثون عن جلسات “التفريغ العاطفي” واستعادة التواصل الداخلي”، كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا حزبه أمر، فزع.
إلى الصلاة. فالله سبحانه وتعالى لم يفرض الصلاة عبثًا، بل جعلها صمام أمان للروح وسط تقلبات الدنيا. في كل سجدة، هناك نزفٌ للألم، وتخففٌ من ثقلٍ نحمله بلا وعي. في كل ركعة، استعادة لهدوئنا الداخلي الذي فقدناه ونحن نركض خلف أشياء لا تدوم.
ومن الملفت أن الله سبحانه وتعالى شرع لنا صلاة الخسوف والكسوف حين تتغير أحوال الكون؟ حين ينخسف القمر أو تكسف الشمس، يُنادَى للصلاة، وكأن الله يربينا أن نؤمن أن الصلاة قادرة على تهدئة الاضطراب، سواء كان في السماء أو في أرواحنا. أليس هذا وحده دليلًا أن الصلاة هي علاج التحولات، ومفتاح تبدل الأحوال؟
إنها ليست مجرد استجابة لشعور بالخوف أو التغير؛ بل هي لغةُ الروح مع السماء. لغة الشفاء حين تضيق بنا الأرض.
فمن أراد أن يرمم قلبه، فليقم إلى الصلاة. ومن أراد أن يشفي جرحه العميق الذي لا يراه أحد، فليُسجد جبهته متذللاً لخالقه.
أرحنا بها يا بلال… ما أعذب هذا النداء.
نداء تجاوز حدود الألفاظ، ليصبح منهاج حياة؛ نلجأ به من ضجيج الدنيا إلى سكينة السماء. فلا ننسى اليوم ونحن نبحث عن علاج لأحزاننا الصغيرة، أن أعظم علاج بُسط لنا بسجادةٍ على الأرض، وبكلمات تخرج من القلب نحو الله؟
كل مرة نقف بين يدي الله، نحن نعيد ترميم أنفسنا، نشفي ذلك “الطفل الداخلي” الذي ظننا أن علاجه عند بشرٍ مثلنا.
كل مرة نسجد، نحن نضع أوجاعنا فوق الأرض، وننهض أخف، أصدق، وأقرب إلى السلام الحقيقي. فلنعد إلى الشفاء الذي لا يُخطئ، في زمن التشافي المزعوم، وفي زحمة البحث عن الطمأنينة في غير موضعها، تعالوا نسمع من جديد نداء النبي:
“أرحنا بها يا بلال”
تعالوا نرتاح بالصلاة، نشفى بها، نُرمم أرواحنا فيها، ونغسل وجعنا بين يدي الرحمن الرحيم.
فالشفاء كل الشفاء… كان وما زال… في سجدة صادقة.

بقلم: بهجه أحمد

بهجه أحمد

كاتبة رأي وشاعرة

‫2 تعليقات

  1. “كتابتكِ عن (أرحنا بها يا بلال) كانت بمثابة نفحة روحانية تلامس القلب والروح. أسلوبكِ العذب جعل الكلمات تتسرب بلطف إلى أعماقنا، تُذكرنا بجمال الصلاة وراحتها. حقاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى