اللعنة التي تلاحقنا

الكاتب / محمد الفريدي
في عام 1938 م، اكتشفنا أول بئر نفطية في المنطقة الشرقية على ضفاف مياه خليجنا الغالي الجميل، وساد بيننا آنذاك شعوراً بالفرح والتفاؤل، واعتقدنا في تلك الفترة كغيرنا من الشعوب أن هذه الثروة السماوية ستخرجنا من الفقر والجوع، وتجعلنا أغنياء بدون عناء، ولم ندرك حينها أن هذه الثروة ستصبح لعنة علينا، وستؤثر على طريقة تفكيرنا، ومسارنا، وسلوكنا، ومستقبلنا.
ومع مرور الوقت، بدأ هذا النفط يشكل محور حياتنا، ويحدد مسارنا، ومستقبلنا، ويصبح بالنسبة لنا مصدر كل شيء، فركزنا على استخراجه وتصديره، وتركنا معظم مجالات التنمية الأخرى، والتعليم، والبحث والتطوير جانبا، وأصبح يشكل لنا مشكلة كبيرة، فقد أصبح حاضرنا معرضاً بوجوده للتقلبات العالمية في أسعاره، ومستقبلنا ومستقبل أجيالنا القادمة مهدد بنفاد هذه الثروة الغير متجددة التي من المؤكد أنها ستنضب في يوم من الأيام.
وبدلا من استغلال هذه الثروة التي هبطت علينا من السماء، وإقامة صناعات قوية تحويلية مستدامة، تسلل إلى نفوسنا شعور بالغرور والاتكال والراحة والخمول، وأصبحنا أكثر اهتماما بشراء الكماليات والمواد الاستهلاكية، وبدأت تظهر بيننا بشراسة ثقافة (الهياط)، والمفاخرة، والترف، والتبذير، والتباهي بكل شيء، وإقامة الولائم الكبيرة التي يصب بها السمن علي الأيادي صبا، ولم تعد الصناعات الثقيلة او التقليدية تحظى باهتماماتنا، وأصبحنا نميل إلى النعومة أكثر فأكثر، وتجاهلنا أهمية التصنيع والصناعات التحويلية والتقليدية الأخرى.
ومع مرور الزمن، بدأت تظهر علينا، وعلى شعوب الدول الخليجية علامات مرض اقتصادي خطير سبق أن أُصيبت به هولندا، يعرف بـ (مرض الرخاء) أو بـ (المرض الهولندي)، ويصيب هذا المرض الدول التي تصبح غنية فجأة، ويعد بمثابة لعنة تؤثر سلباً على سلوكياتها وتوجهاتها المستقبلية، وهي ظاهرة تحدث عندما يؤدي اكتشاف وتصدير موارد طبيعية وفيرة في دولة ما إلى انكماش قطاعات صناعية او انعدامها كليا، وقد حدث هذا في هولندا بعد اكتشاف حقول كبيرة للغاز الطبيعي في بحر الشمال عام 1959م، و من بعد ذلك لا هولندا ولا شعبها (لحقوا خيرا).
ونحن هنا، في بلادنا، ودول الخليج، اصبنا بهذا المرض أيضا لأننا لم نستثمر ثرواتنا في تطوير صناعاتنا، وأصبحنا نستورد ابسط منتجاتنا الاستهلاكية، والوظائف الحكومية أصبحت ملاذنا الوحيد الآمن، وهجرنا الحرف اليدوية، والصناعات التقليدية الثقيلة والخفيفة، مما أدى إلى انتشار البطالة بيننا، وانتشار الفساد المالي والإداري في جميع قطاعاتنا بلا استثناء نتيجة لغياب الرقابة والشفافية، وسادت بيننا ثقافة الاستهلاك السريع في كل شيء، مما أدى إلى زيادة الديون المتراكمة علينا كمواطنين، وارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بشكل جنوني، وتراجع مستوانا المعيشي، وازددنا فقرا على فقرنا، وأصبح مستقبل أجيالنا القادمة مهدداً بالانقراض، أو قل في مهب الريح حتى نكون في أعين الرقيب في السليم .
هذه أعراض المرض الهولندي الخطير، التي يدل ظهورها او وجودها في أي دولة كانت بأنها تعاني من مرض خطير، وهو مرض ينتج عن سوء استخدام الثروات الطبيعية، والاعتماد عليها اعتمادا كليا، وعدم استغلالها بشكل صحيح وفعال، وكان من الواجب أن نتخلص من هذا المرض الخطير من عدة عقود مضت، ونعيد النظر في سياستنا الاقتصادية، ونركز على تنويع مصادر دخلنا وتطوير صناعاتنا، او نتركها على حالها حتى تتفاقم، وتصبح لعنة حقيقية تلاحقنا إلى الأبد، ونظل نعاني من تبعاتها إلي مالا نهاية، ومستقبلنا يصبح مظلماً كما حدث لهولندا في القرون الماضية، والذي بسببه تراجعت عن نظيراتها من الدول الصناعية الأوروبية، وعلى الرغم من ثرواتها الكبيرة إلا أنها لم تحقق الرفاهية الاقتصادية المطلوبة لجميع أفراد شعبها، لأن مواردها الطبيعية لم تستغل بشكل صحيح نتيجة لهذا المرض المخيف، مما أثر على استدامتها، ورفاهية شعبها، وتقدمه، فما بالك بنا نحن الذين هبطت علينا الثروة من السماء، وجاءت إلينا، ونحن على (الحديدة؟!).
وتتمتع دول الخليج بثروات طبيعية هائلة، ولكن رغم ذلك كله لا يزال الكثيرون من سكانها يعانون من الفقر، وتزايد معدلات البطالة، والبحث عن فرص العمل، وتزايد النمط الاستهلاكي بشكل متزايد، وازدياد مزادات أرقام الهواتف ولوحات السيارات المميزة، ما يشير إلى غياب ثقافة الإنفاق والادخار السليم، وهذه المؤشرات تدل على أن الثروات النفطية لم تستخدم بطريقة فعالة، مما يستدعي ضرورة مراجعة سياساتنا الاقتصادية، ومعالجة البطالة، فإن هذه الثروات قد تتحول إلى عبء ثقيل على الأجيال القادمة، لذا يجب أن نسعى، وتسعى دول الخليج إلى تعزيز ثقافة الإنفاق والادخار والابتكار والتنوع في الاقتصاد، وإلا فستصبح هذه الثروة لعنة تلاحقها ﻭ تلاحقنا إلى يوم القيامة .
هولندا تخلصت من هذا المرض بصعوبة، ولكن نحن ما هو مصيرنا ومصير (ربعنا) في دول الخليج؟ هل سنستفيق من حلم الرفاهية كما فعلت هولندا قبل فوات الأوان؟ أم هل سنفهم أن ثروة نفطنا ليست ضمانا لحياة سعيدة ومستقبل مشرق لأجيالنا القادمة، وبالتالي نجنبهم مصير هولندا من خلال التخطيط الإستراتيجي، وتنويع الاقتصاد، وتعزيز التعليم والاكتشاف والابتكار؟
الإجابة على هذه الأسئلة يعتمد على قدرتنا في دول الخليج على التغيير والتكيف مع الظروف المتغيرة التي نمر بها، و من الضروري أن نركز على تنويع مصادر دخلنا، وإيجاد حلول لمشكلاتنا الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية التي نواجهها، وأن نولي الأولوية للتعليم، والبحث العلمي والفكري، والتطوير، والابتكار، فمن خلال التخطيط الإستراتيجي والتنفيذ الفعال، يمكننا أن نحقق مستقبلاً مشرقا ومستداما لأجيالنا، فقد اعتمدنا بشكل كبير فيما مضى على النفط كمصدر رئيسي للدخل، ولم نركز على تنويع اقتصادنا أو بناء بنية تحتية قوية، ولم نشجع الابتكار والتطوير في مختلف المجالات، ومع الوقت، أصبح اعتمادنا على النفط بدلا من ان يكون نعمة كبيرة علينا، أصبح مشكلة كبرى تحتاج إلى اصلاح، وأصبح حاضرنا معرضاً للتقلبات العالمية في أسعار النفط، ومستقبل أجيالنا مهدد بنفاد هذه الثروة غير المتجددة، وأصبحت الدول العظمى تشتريه بالسعر الذي هي تريد، لا بالسعر الذي نحن نريد.
وبدأت تظهر أنواع جديدة من الفساد المالي والإداري، وأصبح العديد من المدن والمحافظات مهملة ومحرومة من التنمية، والمدن التي لها أبناء يعملون لدى رأس الهرم في الوزارات الخدمية تنعم بزيادة الميزانيات، والمشاريع النوعية، وتحظى بالازدهار والتطور والتقدم .
ولكن، ولله الحمد، مع ظهور جيل جديد من القيادة في السعودية ودول الخليج، بدأت تدرك خطورة الاعتماد الكلي على النفط، وتأجيل القضاء على هذه الأمراض الخطيرة، فركزوا على مكافحة الفساد، ونوعوا اقتصادياتنا، وطوروا مصادر دخل أخرى مثل السياحة، والتكنولوجيا. وأصبح العديد من المدن بعد الإهمال والتهميش في اقل من سبع سنوات، مناطق مهمة، وحيوية، ومناطق غنية بالتاريخ، والطبيعة، والثقافة، ووجهات سياحية مهمة.
وتعتبر محافظة العلا علي سبيل المثال لا الحصر مثالا حيا على تحولنا من الاعتماد الكلي على النفط إلى إيجاد فرص جديدة للتنمية والتنوع الاقتصادي، ووجهة سياحية مهمة في مستقبل بلادنا، ومستقبل المنطقة، فهي تعد اليوم مثالا على كيفية التغلب على (مرض الرخاء)، والتحول من الاعتماد على النفط إلى تنوع فرص الاقتصاد، فبلادنا من خلال هذا التوجه يمكنها أن تصبح قوة اقتصادية عالمية بدون الاعتماد على النفط، ولكن يجب أن ندرك نحن اولا أن ثروة النفط ليست ضمانا للحياة السعيدة، والمستقبل المشرق، وأن التركيز على التعليم، والبحث العلمي والفكري، والتطوير، والابتكار، والتخطيط الإستراتيجي السليم، والتنفيذ الفعال للبرامج الوطنية، والتعاون بين جميع أطراف المجتمع، هو السبيل الوحيد لبناء مستقبل مستدام للأجيال القادمة، وإلا فإن (مرض الرخاء) سيصبح لعنة تلاحقنا، وتلاحقهم إلى مالا نهاية .
كاتب رأى
الذهب الاسود كما يقال من نعم الله عز وجل على هذه البلاد الطاهرة ..
فعلا ما اشرت اليه اخي محمد من الركون لهذا المصدر وعدم الالتفات للمصادر الاخرى في الزمن الماضي والتي اهملناها بقصد اوبدون قصد جعلت حياتنا من خمول في خمول والشباب ينتظرون الوظيفة بفارغ الصبر لانها الطريق السهل لتأمين حياة كريمة له ولاسرته وعدم الالتفات للاعمال الحرفية الاخرى مما افقدنا الكثير من الايدي العاملة الوطنية واعتمدنا على الاجنبي في معظم الاعمال الحرفية مالم يكن كلها ..
ولكن ولله الحمد في الأونة الاخير وبفضل الله ثم بفضل رؤية سيدي ولي العهد حفظه الله تم تنويع مصادر الدخل وكذلك الالتفات لكثير من الاعمال الحرفية وتوطينها كما اشرت اليه في المقال ..
دائما ما تتناول في كتاباتك مواضيع تمس هم المواطن ..
فشكراً لك ولما يطرحه قلمك المميز .
تقبل تحياتي .
اخي العزيز سعادة المستشار أبو عبدالله
أشكر سعادتكم على كلماتكم الراقية، وتحليلكم العميق .
فعلاً، الاعتماد المفرط على الموارد النفطية أثر على تنمية المجالات الاخرى، مما جعلنا نفقد الكثير من الفرص فيما مضى ، ومع رؤية ولي العهد، نحن نشهد تحولا إيجابيا نحو تنويع مصادر الدخل وتطوير الحرف والمهن التي تعزز من وجود اليد العاملة الوطنية في سوق العمل.
أعتز بتقديركم كثيرا لما أكتب، وتقبل فائق تحياتي.
محمد
منذ بداية استلام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز يحفظه الله زمام الحكم وفي ظل الرؤية المباركة والتحول الوطني ابتعدت عنا اللعنة الى غير رجعة ولله الحمد والمنة .
تحياتي لك ايها العزيز .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أشكركم اخي العزيز سعادة اللواء عبدالله المالكي على كلماتكم الطيبة ، و بالفعل منذ تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز يحفظه الله الحكم، شهدنا تقدما ملحوظا وتحولات إيجابية تعزز من مكانة مملكتنا الغالية.
و تقبل فائق تحياتي واحترامي.
اخوكم / ابو سلطان
موضوع مهم يوضح سبب قوي من أسباب رؤية ٢٠٣٠ والتحول الرائع في الاعتماد على القطاعات الأخرى بجانب القطاع النفطي والجهود الكبيرة من أجل التحول الاقتصادي للأفضل ..
بوركت أ محمد على هذا التناول الجميل المبسط والعميق
شكرا جزيلا لكِ أستاذة فتحية على كلماتكِ الطيبة ، و أقدر لكِ تقديركِ للموضوع وأهمية رؤية 2030 في تعزيز التنوع الاقتصادي.
بالفعل التحول نحو القطاعات الأخرى يعد خطوة استراتيجية مهمة نحو مستقبل أفضل.
وتقبلي فائق تحياتي واحترامي.
اخوكم / ابو سلطان