كُتاب الرأي

أبناؤنا وبلد المليون واعظ

ركب ستيفن كوفي في القطار ذات يوم مع رجل يصطحب أطفاله، وكان الأطفال يقفزون من كرسي إلى كرسي، وصرخاتهم تملأ عربات القطار، وأبيهم سارحا بأفكاره في ملكوت الله، ولم يكلف نفسه حتى عناء النظر إليهم، فلم يحتمل كوفي تلك الفوضى، وتهجم على الرجل بكلام قاس جدا، وطلب منه أن يضبط أطفاله في آخر الكلام، فانتبه الرجل فجأة وقال له بانكسار شديد:
_اعذرني، فلقد توفيت أمهم في المستشفى قبل قليل، ولم أنتبه لهم من هول الصدمة .. “أنا آسف”.

عندئذ لم يعرف كوفي ماذا سيفعل بعد ذلك وماذا سيقول، وتمنى لو أنه تريث قليل قبل أن يحكم على الرجل بالإهمال أو يتكلم معه بقسوة.

طبعا يرى الكثير منا أن ما قام به كوفي تصرف طبيعي، ومن حقه، ومألوف عند بني البشر جميعا، فنحن جبلنا على أننا لا نكاد نرى شخصا غريبا، حتى نبدأ بإطلاق أحكامنا المعلبة عليه، خصوصا إذا كان ذلك الشخص ينحدر من ثقافة أخرى أو معتقد آخر.

كلنا هكذا في كثير من الأحيان، نحمل في دواخلنا قاضيا صغيرا ظالما متسرعا في إطلاق أحكامه على الآخرين، قاضيا لم تنصبه لا محاكم شرعية، ولا محاكم وضعية، ولا وزارات عدل، ولا مجالس وزراء، ولا يحزنون، قاضيا لم يدرس في حياته لا شريعة ولا أنظمة ولا درس القوانين، قاضيا تخرج من أروقة جامعات صراعاتنا مع ذواتنا ، وعراكنا المستمر مع أنفسنا وأوهامنا.

فحتى نتصالح مع الآخرين من حولنا، علينا أن نتصالح أولا مع ذواتنا وأنفسنا، وأن نتقبلها بكل عيوبها، بضعفها، بقوتها، بصوابها، بأخطائها، ودون أن نحكم عليها، أو نصنفها، أو نقهرها، أو نهينها، وأن نعودها على قبول الطرف الآخر بكل اختلافاته وتناقضاته، فكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل.

انظروا إلى المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا والأم تريزا، هؤلاء بشر مثلنا، ولكنهم عقدوا صلحا أبديا مع أنفسهم، لأنهم اكتشفوا بأن كراهية المرء لنفسه أو لغيره هي أسوأ خطيئة يرتكبها في حياته بحق نفسه وبحق الآخرين من مولده وحتى بعد مماته، ولذلك أثروا في الملايين.

بعضنا يستغرب كيف استطاع مانديلا العيش في زنزانة ضيقة سبعة وعشرين عاما، والجواب ببساطة: مانديلا تصالح مع نفسه، ومع الكون كله، ومع الوجود، ومع العالم من حوله فاتسع قلبه لكل المعتقدات، ولكل الأشكال، ولكل الألوان فأصبح “سعادة تمشي على الأرض بقدمين”.

ليس النجاح هو الوصول إلى السعادة، ولكن السعادة هي إيجاد السعادة.
هؤلاء أوجدوا سعادتهم وهم في داخل عنابر السجون، وهم في أدغال ومجاهيل أفريقيا، وهم في مخيمات المعدمين والفقراء، تصالحوا مع ذواتهم، فخلد التاريخ أسمائهم.

ومعنى أن نتصالح مع ذواتنا هذا يعني أن نترك أساليب الوعظ والإرشاد جانبا، وأن نبدأ بالتأثير على الآخرين بأفعالنا، يعني أن نهبط إلى أي مجتمع من السماء فجاءة ونفهم مكوناته، ونستوعب مزاجيته وتقلباته، وتناقضاته، ونتعامل معه بصدق وبحب وحنان، فالوعظ لم يزدنا تماسكا بأخلاق معتقدنا برغم أننا نعيش في “بلد المليون واعظ”.

معنى أن نتصالح مع ذواتنا هذا يعني أن ندرس واقعنا وان نحبه كما هو، وأن لا نفرض على الآخرين قوانيننا ومعتقداتنا وتعاليمنا، بل إن نتعلم كيف نعيش معهم جنبا إلى جنب بحب وتعاون وسلام.

اعرف أن هذه العملية عملية صعبة ومعقدة وطويلة وتحتاج إلى صبر وتفهم، ولكنها قابلة للتطبيق إذا كنا نفهم أننا جميعا أشخاص مختلفون عن بعضنا البعض في المعتقدات ﻭ التفكير والدين، ولذلك، إذا كنتم ترغبون بالتصالح مع العالم من حولكم، فأبدوا بالتصالح أولا مع أنفسكم ، ثم مدوا أيديكم لمصالحة للآخرين، وحاولوا أن تفهموا وجهات نظرهم وخلفياتهم وتحفظاتهم، وكونوا متسامحين ومتفهمين تجاه اختلافاتهم، وحاولوا إيجاد نقاط التفاهم المشتركة، وقوموا ببناء الثقة والاحترام المتبادل عبر التواصل الصادق والمتبادل، ولا تنسوا أن تكونوا مرنين و مستعدين للتغيير، العالم من حولكم يتغير ويتقلب، ومن المهم أن تكونوا قادرين على التكيف والتأقلم مع التحولات والتحديات، وليس نفاقا أو مداهنة لأمة من الأمم أن غيرتم وجهة نظركم السابقة وطريقة تعاملكم وتفكيركم لتتماشى مع الظروف والمعطيات والواقع الجديد.

يقول كونفوشيوس:
_لكي تصل إلى المعرفة عليك أن تتعلم ثقافة التفكير.

ويقول ابن خلدون:
“الوعظ في أحيان كثيرة، يؤدي إلى سفك الدماء، فالناس لبساطتها تثيرها المشاعر، ويهيجها الكلام الوعظي، فتندفع كبركان ثائر، يدمر الأخضر واليابس”.

وهذا بالضبط ما حدث يا ابن خلدون لشبابنا الذين لم يتعلموا منذ نعومة أظافرهم ثقافة التفكير، ولم يزدهم الوعظ تسامحا واستقامة وصلاحا، بل زادهم عنادا و صلافة وشراسة وتطرفا وسفكا للدماء.

محمد الفريدي

محمد الفريدي

رئيس التحرير

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى